اضطهاد المسيحيين في تركيا سنة 1915م

From ChaldeanWiki
Revision as of 01:54, 27 November 2015 by Amytis (Talk | contribs)

Jump to: navigation, search
Chaldean Bishop Israel Audo

اضطهاد المسيحيين ألأرمن والآراميين (الكلدان والسريان والآشوريين) في ماردين وآمد وسعرد والجزيرة ونصيبين (تركيا) عام 1915م تاليف: مار إسرائيل أودو مطران ماردين على الكلدان


تعريب وتحقيق ألشماس خيري فومية مشيغن ـ أميركا

* اضطهاد المسيحيين في ماردين وآمد وسعرد والجزيرة ونصيبين *

مقدمة المعرب

بعد صدور كتاب: ’المخطوطات السريانية والعربية في خزانة الرهبانية الكلدانية في بغداد‘ لمؤلفيه الفاضلين كل من الأب (المطران) د. جاك اسحق والأب د. بطرس حداد، واقتنائي نسخة منه وقراءته، عزمتُ على زيارة هذه المكتبة الثرية لاحتوائها كنوزا من شتى المناهل. وان كنتُ قد زرتها في اواسط الستينيات من القرن العشرين، ايام كانت موزعة بين ديري السيدة حافظة الزروع القريب من القوش ودير مار كيوركيس في قرية بعويرة الواقعة بين الموصل وتلكيف، قبل نقلها الى بغداد. لأن زياراتي تلك كانت مقتصرة على تدوين ملاحظات من مخطوطات الحوذرا والكزا، خاصة فقط بالأعياد والتذكارات في الكنيسة الكلدانية. فمن جملة المخطوطات التي استهوتني الآن هي المخطوطة التي تحمل عنوان: ’أحداث الحرب العالمية في ألأبرشيات التركية‘ ونُسَخُها هي تحت الأرقام (573 ـ 576) اضافة الى العناوين الأخرى الكثيرة. وفي اول فرصة زرت فيها الدير المذكور استأذنت أمين الخزانة لأطلع عليها، فكان الرهبان كرماء كعادتهم تصفحت احدى تلك النسخ فوجدتها تحمل عنوان ’ܪܕܘܦܝܐ ܕܟܪܣܛܝ̈ܢܐ ܐܪ̈ܡܝܐ ܘܐܪ̈ܡܢܝܐ ܕܡܪܕܐ ܘܕܐܡܕ ܘܣܥܪܕ ܘܓܙܪܬܐ ܘܢܨܝܒܝܢ ܘܕܐܘܪܗܝ ܘܕܫܪܟܐ ܫܢܬ ܐܨ݅ܝܗ. اضطهاد المسيحيين الآراميين والارمن في ماردين وآمد وسعرد والجزيرة ونصيبين والرها وغيرها، عام 1915‘، وكذلك كان حال بقية النسخ من تلك المخطوطة. يبدو ان المفهرسين الفاضلين إرتأيا وضع عنوان الكتاب بالعربية، ’احداث الحرب العالمية في الأبرشيات التركية‘ لغاية ما! وانا اتصفح احدى تلك النُسَخ، راودتني فكرة نقله الى العربية، لاظهار بطولة وبسالة آبائنا واجدادنا وهم يستقبلون الموت بصنوفه لا لجرم اقترفوه بل لأنهم يحملون اسم المسيح، الذي آمنوا واعترفوا به بانه هو المخلص المُحيي، ذلك على ايدي برابرة انعدمت فيهم الانسانية، وحُسبوا على البشرية بينما الوحوش الكاسرة هي ارحم منهم حين تكون شبعة، واقل ما يمكن القول بحقهم: انهم وحوش كاسرة تمشي على الأرض بين البشر، والبشرية منهم براء. فاستنسخت احداها. وقمت بنقلها الى العربية على قدر ما كان يسمح لي وقتي ايامها، فاتممتها مطلع عام 1992م. لم انشرها في حينه لأسباب، اهمها لأنني كنت لا ازال اقيم في الوطن الآم، العراق الذي لم يسمح بنشر اي كتاب الا بوافقة وزارة الاعلام العراقية. وان اية دولة عربية لا تسمح بنشره كي لا ينكشف الوجه المستور لما تؤمن به، ثم لأنني كنت اود ان احققها ايضا. لكن ظروفي تغيرت فجأة، فلم تسمح لي بتحقيقها ونشرها. فبقيت مع مجموعة اخرى من ترجماتي وكتاباتي نائمة فوق رفوف مكتبتي. غير انني الان قد اضفت عددا قليلا من الهوامش، اعقبتها بكلمة / المعرب، اما الهوامش التي لاتعقبها كلمة المعرب فهي إما من وضع ناسخ النسخة التي اعتمدتها في الترجمة او من النسخة التي اعتمدها ناسخ النسخة التي اعتمدتها. لما كان احد الأخوة القائمين على اصدار مجلة ’بين النهرين ـ الباريسية‘ قد اطلع على مسودة هذا الكتاب، ايام اقامتي في فرنسا، طلب مني نشر ما يمكن نشره في المجلة المذكورة، فلبيت طلبه بسرور. لأن هدفي ألأول والأخير من ما اقوم به من كتابات وترجمات ليس الا للتعريف بتراث وتاريخ امتنا وكنيستنا الشرقية الكلدانية، فنشرت منه تسع حلقات، حتى احتجبت تلك المجلة عن الظهور. اي من العدد الثاني السنة 1(2000)، ولغاية العدد العاشر السنة 3(2002). كلمة موجزة عن المخطوطة: المؤلف كما ذكرنا اعلاه هو المثلث الرحمات مار اسرائيل اودو مطران ماردين على الكلدان، (1910 ـ 1941م) قبل واثناء وبعد الاضطهاد، اي انه شاهد عيان لما جرى من المجازر بحق مسيحيي تركيا، بكل قومياتهم ومذاهبهم، خلال الحرب العالمية الأولى وما بعدها . شاءت الصدف ان آخذ نسخة من بين النسخ المخطوطة: ’’اضطهاد المسيحيين الأرمن والآراميين في ماردين وآمد وسعرت والجزيرة ونصيبين عام 1915‘‘، لم يرد ذكرها لدى المفهرسين، لذا فلا تحمل حاليا رقما تسلسليا في ’’فهرس المخطوطات السريانية والعربية في خزانة الرهبانية الكلدانية في بغداد‘‘. هذا لا يعني أن المفهرسين قد أهملا فهرستها، بل اقول ربما اصبحت من ممتلكات هذه الخزانة بعد انتهائهما من عملهما الذي اخذ من وقتهما وجهدهما الكثير. يظهر بان هذه النسخة هي احدث عهدا من النسخ الست الأخرى الموجودة في تلك الخزانة، والوارد ذكرها وتسلسلها في الفهرس المذكور. وقد خط النسخة التي اعتمدتها لترجمتي، بخطه الجميل القس ابلحد كوركيس الهوزي. وانتهى من نسخها كما يذكر في نهايتها، يوم السبت المصادف 29/ كانون الثاني/ 1973م. ويضيف الناسخ قائلا: ’نسختُ هذه المخطوطة للسيد هرمز كادو لتبقى عنده علامة وذكرا ابديا‘‘. كلمة عن ناسخ المخطوطة: القس ابلحد كوركيس الهوزي، ولد في تلكيف سنة 1945م، درس الابتدائية والمتوسطة في مدارسها. وفي شهر تشرين الأول من سنة 1961م، التحق في معهد شمعون الصفا الكهنوتي لبطريركية الكلدان أي (الدير الكهنوتي). المنقول من الموصل الى بغداد مطلع السنة الدراسية السابقة. يرافقه في ذات اليوم طالبان اخران من تلكيف هما، مترجم هذا الكتاب وسالم داود متي، لكن لم يكتب لهما اكمال دراستهما في المعهد المذكور. وكان التلميذ ابلحد بين التلامذة المجدين في المعهد. وبعد انتهائه من مرحلتي الفلسفة واللاهوت، قدمه رئيس المعهد المذكور القس (المطران) ابراهيم ابراهيم، مع سبعة آخرين من تلامذة المعهد الى غبطة البطريرك ليُرتَسَمُوا كهنة لخدمة المذبح المقدس، فرُسِمُوا يوم احد العنصرة (الفنطيقسطي) الذي صادف في 2/ حزيران/ 1968م، والكهنة الثمانية الذين ارتسموا في ذلك اليوم، بوضع يد المثلث الرحمات مار بولس الثاني شيخو بطريرك بابل على الكلدان في كنيسة ام الأحزان في بغداد، هم كل من: مانوئيل بوجي ونجيب القس شمعون وصبري قجبو وزهير قجبو وابلحد كوركيس، هؤلاء الخمسة من تلكيف، ونوئيل حنونا ويوسف شمعون من كرمليس، والسبعة المذكورون هم من ابرشية الموصل، وكمال وردة بيداويذ من ابرشية زاخو. خدم الكاهن الجديد ابلحد في ابرشية الموصل التابع لها، وبالتحديد في مدينة الموصل، اذ عينه راعي ابرشيته المثلث الرحمات مار عمانوئيل ددي مطران الموصل على الكلدان، في خورنة مار يوسف، ثم في خورنة الشهيدة مسكنته. لكنه وهو في ربيع شبابه، اصيب بمرض، فاعتزل الخدمة واقام في بغداد حتى وفاته في 18/ نيسان/ 1984م، ونقل جثمانه الى تلكيف مسقط راسه، ووري الثرى في مقبرتها العامة يوم الجمعة العظيمة في 20/ نيسان/ 1984م. رحمه الله. هذا وأملي ان اكون قد وفقت في نقل هذا الكتاب الى العربية، كما وآمل انني قد تمكنت من تقديم بعض الخدمة ـ وهذا مقصدي الأول والأخير ـ لعشاق التاريخ والتراث الديني، خاصة لما له علاقة بكنيستنا، كنيسة المشرق الكلدانية المقدسة.

                                      الشاس خيري ميخا فومية
                                            مشيغن/ أميركا
                                      في 15/ تموز/ 2009م
                            تذكار مار قرياقوس الشهيد وامه يوليطي
                            شفيع كنيسة تلكيف وجماعتها المباركة

توطئة المؤلف

حروب كثيرة دارت رحاها بين البشر (الأمم والشعوب) ، منذ بداية العالم وليومنا هذا، سفكت فيها دماء غزيرة جرت كالأنهر. وازهقت انفس لا حصر لعددها. كحروب اسكندر المقدوني مع كل من الرومان والبربر، والفرس والهنود. ونابليون مع الأمم الأوربية الأخرى. غير ان الحرب الأخيرة المسماة بالعالمية، والتي اندلعت شرارتها في نهاية تموز من عام 1914م، بين النمسا وصربيا اللتين منهما استشرت نارها كالبرق في الغابة الكبرى، غابة الدول القوية في اوربا ودول البلقان. هذه الحرب التي فاقت (بشاعتها) كل الحروب التي سبقتها، وعلى مدى تاريخ البشرية. اذ اتت على دمار كبير في المعمورة، بحيث لم يتمكن العقل البشري من حصر اضرارها المادية ولا خسائرها البشرية. فرغم كون اضرارها محصورة (بصورة خاصة) في اواسط اوربا، الا ان شرارتها طارت واوقدت اوطاننا (الدولة العثمانية) فاقتنصت نارها واحرقت على وجه خاص الشعب الارمني العريق الضاربة جذوره في ارض بلاد الأناضول منذ اقدم الأزمان (وفي هذه الايام) ضمن حدود الامبراطورية العثمانية وغيرها (اي روسيا). وقد بدأ اضطهاد هذا الشعب البائس في ربيع عام 1915م. وانتقلت شرارة هذا الاضطهاد الى الشعب الآرامي الساكن في سعرد وآمد (دياربكر) والجزيرة (جزيرة ابن عمر ـ بيث زبدى) وماردين وما حولهم من المدن والقرى، ذلك للتداخل الحاصل بين (المسيحيين من اهالي) تلك المدن والقرى. بدأ اضطهاد المسيحيين عدا اليعاقبة (السريان الارثدوكس) منهم (بادئ الأمر) في ماردين، يوم الثالث من حزيران سنة 1915م، ولم تخمد ناره حتى نهاية شهر تشرين الاول من ذات السنة. وقد رغبتُ ـ ومن اجل ان تذكر الاجيال القادمة (هذا الاضطهاد)، ـ تنظيم قصيدة شعرية وثقت فيها ألأحداث والحقائق الكثيرة من التي جرت اثناء هذا الاضطهاد القاسي والبشع. وقد وثقتها فعلا. لكن وبعد فترة قصيرة، شعرت بان تلك القصيدة جاءت مختصرة جدا، ولم تحوِ كل التفاصيل والاحداث التي من اجلها نظمت القصيدة المذكورة. وعليه ارتأيت كتابة قصة اخرى اولى غاياتها، توثيق ألأحداث وما جرى والظروف الملابسات التي احاطت بهذا الاضطهاد المرير الذي لم يكن له مثيل منذ قرون، كما ذكرت اعلاه. وهكذا جاء هذا الكتاب الى نهايته، فالقارئ الذي اطلع على جذور ومسببات الاحداث التي ضمتها القصيدة الشعرية المختصرة، سيتذكر الرواية . لم اسخر قلمي لأدون هذا السفر، الا على ما رأيته بأم عيني وسمعته باذني من الحقائق. وقد ابتعدت كثيرا عن الاطالة. اما عن الذي دونته نقلا عن روايات سمعتها، لم اقبلها ولم ادونها الا بعد البحث والتمحيص الدقيق، مسجلا لكل حادث سببه. اذ لا بد من ان يسأل القارئ عن ماهية الاسباب والدوافع التي ادت الى هذا الاضطهاد القاسي والبشع. الذي كانت ضحيته كل من الأمتين الأرمنية والآرامية. كما سأبين وأوضح في المقدمة، عن أولئك الأرمن الذين كانوا يصطادونهم كما تُصاد الفراشات الطائرة وهي في غاية بهائها وروعتها. كما سأوضح الأسباب التي جعلتني أن أسمي الغالبية من اولئك الرجال والنساء والشبان والشابات الذين قضوا في ذلك الاضطهاد بالشهداء. عزيزي القارئ اللبيب، عند قراءتك للمقدمة ستقف على الدوافع والأسباب التي ادت الى حدوث هذا الاضطهاد، اذ بدون ذنب اقترفوه، ولا محاكمة أصولية (أصدرت بحقهم حكمها) كما تقره الشرائع والقوانين المدنية. ولأيضاح أكثر أقول: ان سبب ابادتهم لم يكن غير كونهم مسيحيين ليس الا. ذلك لأن جميعهم، وحينما كانوا يُساقون للذبح، كان الجزارون يدعونهم الى نبذ ديانتهم المسيحية واعتناق الاسلام ليَسْلَمُوا، غير أنهم رفضوا ذلك، وبرفضهم نالوا اكاليل الشهادة للمسيح.

مقدمة اولى في سبب الاضطهاد الخاص بالأرمن سنة 1915

لا يخفى على المختصين، بأن الأرمن ومنذ قرن وليومنا هذا، قد نما عندهم الشعور القومي وحب الاستقلال والتحرر من نير العبودية المُسْتعْبَدين به (بدءًا) من أرمن جبل أرارات وما دونهم. فهيذا شعوب شبه جزيرة البلقان، من اليونان والصرب ورومانيا والجبل الأسود (مونتنيكرو) والبلغار، تثور الواحدة تلو الأخرى، فتحصل على استقلالها وحريتها. رغم كونها شعوبا غير معروفة بين أمم الأرض. لأنهم ليسوا من الشعوب الحائزة على اي نوع من انواع المعارف والعلوم الحديثة. ولو انهم لم ينالوا هذا الاستقلال والتحرر الا بمساعدة ودعم القوى الأجنبية، تلك القوى التي حرَّضتها على الانتفاضة والثورة. ان تلك الحركات التحررية الناجحة، سَبَتْ عقول الأرمن المشهود لهم بالجدية والشهامة والبسالة التي يتحلون بها. حينئذ استفاقوا من سباتهم، فنهضوا من الرقاد البغيض، ونفضوا عنهم غبار اليأس والكسل. فأمِلوا هم ايضا ان ينالوا هذا الشرف السامي، الذي كثيرا ما اشتاقوا اليه. كما وليُحْصَوا ضمن الشعوب والأمم المعروفة والمشهورة في العالم المتحضر، بعد ان يكسروا قيود الأسر ويطرحوا عنهم نير العبودية التي أذلتهم منذ قرون. بدءاًً اخذ اثرياء ألأرمن، بارسال ابنائهم الى المدارس الأوربية للتخصص في مختلف العلوم والمعارف. وكثير منهم (بعد عودتهم) عملوا في دواوين الدولة، فتبوَّأوا مناصب مهمة ورفيعة المستوى، حتى بلغ عدد منهم مناصب من خلالها امسى بامكانهم السيطرة على زمام ادارة المملكة (العثمانية). وبهمة لا تعرف الكلل، انشأوا المدارس في كل المدن (ألأرمنية) للبنين وللبنات، وعينوا لها مدرسين. كانوا ينفقون عليها سنويا اموالا طائلة وبدون بخل. اضافة الى تعلمهم اللغات والعلوم الحديثة ألأخرى، اخذوا يُلقِّنُون في مدارسهم تلك، لتلامذتهم ومن كلا الجنسين، قصص واخبار وعظمة وامجاد ملوكهم الأوائل. علاوة على انهم اخذوا يسمون اطفالهم الحديثي الولادة باسماء اولئك الملوك. ويغرسون وينمون في ذاكرة الاطفال الاحساس والشعور القومي، وبهذا يحثونهم على الثورة، (آملين) ان ينالوا هم ايضا الاستقلال والحرية. حتى تركوا جانبا، التعليم الديني في مدارسهم، كما أن اساقفتهم وكهنتهم، ابطلوا تعليم اصول الدين المسيحي من الكنائس. واستعاظوا عنه ومن على منابر كنائسهم، بعظات عن الحرية وعن كيفية تحصين دورهم وما شابه ذلك من الامور الدنيوية، اضافة الى تحريضهم على حيازة الأسلحة وما يلزمهم من العتاد، ليتمكنوا من ردع اي خطر قد يحدق بهم. هذا ما كانوا يدعون اليه بدلا من التثقيف الديني والسيرة المسيحية والسلوك الحسن الذي تدعو اليه المسيحية. وقد بلغ بهم الحال الى تجرؤ بعضهم بالدعوة الى ازالة الكنائس والهياكل وتحويلها الى حصون وقلاع. فجعلوا كنائسهم دورا للهو ومغائر لاجتماعات الاحزاب، خاصة في السنوات الاخيرة، اذ يتلون ويفسرون فيها لمستمعيهم، الشؤون والقضايا السياسية . وبتلك الاساليب استمالوا افكار (ألأرمن). ولم ينبذوا تلك فحسب، بل اخذوا يتطاولون على الانظمة والقوانين السائدة في البلاد. اي انهم شرعوا يتدربون وفي مدارسهم سرا، على كيفية استخدام السلاح. واسسوا مجالس (الجمعيات والمنظمات والاحزاب) في كل المدن، لنشر تلك الآراء والأفكار وتنميتها، ليس فقط بين الأرمن الرازحين تحت نير الحكم العثماني فحسب، بل وحتى بين ألأرمن الساكنين بين الشعوب والاقوام والأمم الاخرى في العالم. فقد نما وقوي الشعور (القومي) عندهم واستحوذ على افكارهم، حتى بلغ بهم الأمر الى المطالبة وبجدية، باصلاح الفساد الاداري في الامبراطورية العثمانية، ومنحهم حكما ذاتيا تحت (اشراف) السلطة المركزية للدولة العثمانية. ان هذا الطلب: ’’الحكم الذاتي لأرمينيا‘‘ كان صعب المنال جدا، ولا يمكنه أن يرى النور، ويجعل تحقيقه في حكم المستحيل، هو وضع الامبراطورية العثمانية المؤلفة من أمم وشعوب عديدة ومختلفة. استاء السلطان عبد الحميد (الثاني) جدا لدى سماعه بهذا الطلب غير المتوقع. فعمل على افشال كلا المطلبين، أي المساواة والحكم الذاتي، فالسلطان يضمر في قلبه للأرمن الحقد والشر وسوء المصير. اخذ الارمن يبعثون فدائييهم، الى مناطق مختلفة من المملكة ليثيروا الفتن والاضطرابات، فلم يفلحوا بذلك، لأن القوات الحكومية قامت وعلى الفور بقمع تطاولاتهم، واحتوت الآثار التي افرزتها تحركاتهم وسيطرت على الامن. وكثيرا ما كانت تحدث بينهم مواجهات دامية. ان الأرمن المقيمين في روسيا (القيصرية)، كانوا يمدون وباستمرار، (ارمن الدولة العثمانية) بكل ما يستجد من السلاح، لتعزيز هذا الجانب واحزابه. وينفقون على شراء الأسلحة من غلات وايرادات كنائسهم واديرتهم. ولما شعر السلطان عبد الحميد، بازدياد خطرهم وتعاظمه. وطالبو الحرية، سواء أكانوا في الداخل ام في الخارج، يرفعون صوتهم عاليا (مسببين) الاضطرابات، بنجدتهم بالصحف والمجلات الأجنبية، التي بها يهددونه ويتوعدونه ويقرفونه باتهامات وسجايا لاذعة. سئم جدا وقلق على مصيره، فعاش في رعب وفزع من جراء نشاطاتهم. لذا عزم الاستنجاد بقيصر روسيا نيقولا الثاني، طالبا منه مشورته لمعالجة هذا الموقف، رغم كون روسيا الجارة غير المريحة للعثمانيين على حدود امبراطوريتهم الآسيوية. لأن الحركات الأرمنية كانت تغذيها وتحركها قوى وأيادٍ خفية ، والأيادي تلك، كانت ايضا عدوة للادارة القيصرية ، فنال السلطان مأربه. وما ان سنحت له الفرصة التي كان ينتظرها منذ زمن وبفارغ الصبر ليضرب الأرمن، اي حال اتفاقه مع مؤازر قوي مثل نيقولا الثاني، حتى امرت عظمته القوات بضربهم وعلى الفور. فاستولت القوات على كل اوقافهم واملاكهم وكنائسهم، وفي جميع انحاء المملكة. كما وامر باعدام كل مناوئ ومعارض. فما ان اوعز الى قواته التي قامت وبمشاركة فعالة من العشائر الكردية، حتى ضربوا الأرمن ضربة ماحقة، شملت كل المدن والقرى التي يتواجدون فيها، عدا ماردين. فقتلوا ونهبوا واستولوا على الدور والاراضي العائدة للأرمن، غير ان القتل والنهب لم يدم غير ايام قليلة فقط. لأن هذه كانت صولة اولى، ولم تكن ابادة شاملة، كما ذكرنا من قبل . وهذه كانت مشابهة تماما للتي حدثت في مطلع شهر تشرين الثاني من عام 1895م. والتي كانت البداية للابادة الشاملة التي تمت عام 1915م. ايام السلطان رشاد (محمد الخامس 1909 ـ 1918)، وان كان عبد الحميد الثاني المعزول عن العرش لا يزال حيا يرزق. لقد هاج الأرمن من وطأة تلك الضربة، اذ كانوا يُشاهَدون كالسكارى يهوون تحت سنابك خيول الأتراك الهائجة، تلك الخيول التي كانت تعدو فوق اجسادهم. كما وكان اطفالهم يذبحون كالنعاج، ولا يوجد من ينجيهم من بين الأنياب الكاسرة، الا مراحم السلطان ألأحمر ـ لو كانت في قلبه ذرة من الشفقة ـ كما اعتادت المجلات الأجنبية ان تسمي عبد الحميد. ومنذئذ سكتت افواههم وصمتت السنتهم لفترة من الزمن. حتى ان اشقاءهم المقيمين خارج حدود الدولة العثمانية، كانوا يستغيثون ويتشكون ويصرخون، ومنهم من كان يهدد ويتوعد (فلا من يسمع). وفي سنة 1908م، حين كانت قوات الاتحاديين تزحف من تسالونيقي (سلانيك) نحو العاصمة لازاحة عبد الحميد عن عرشه، او ارغامه على قبول التشريعات الداعية الى المساواة والحرية في جميع ارجاء الامبراطورية. فان أرمن ألعاصمة اسطنبول وضواحيها، وعلى أمل أن ينالوا الحرية والحكم الذاتي الذي وعدهم به الاتحاديون مكرا، فيما لو انظموا اليهم للاطاحة بعبد الحميد. وهذا هو ما كان يصبو اليه ألأرمن ويتمنونه. فهرعوا لنجدة الاتحاديين كالضمآن نحو السراب. فهبوا للثأر من الذي أهدر دماء الآلاف من الأرمن، متوهمين بانه هو المسؤول الوحيد عن المذابح التي حدثت بحق أبناء قوميتهم، وأنه هو العقبة الوحيدة في طريق نيل حريتهم، فتسلحوا وانظموا الى الوية الاتحاديين، فاصطيدوا في الشراك التي نُصِبَت لهم. اذ ما ان تأكد للسلطان ان قواته اندحرت وتشرذمت، ومن بقي منها لن يتمكن من قمع حركة الاتحاديين ومناصريهم، وافق على الشروط التي املاها عليه الاتحاديون وحلفاؤهم. وعلى اثر موافقته تلك، ظل متربعا على العرش. ومنذئذ جُعل يوم الثالث والعشرين من تموز يوم نصر الحلفاء، عيدا قوميا، يُحتفل به سنويا يومَ النصر. وفي ذات الوقت أعلن قانون ألمساواة والحرية والعدالة، في كل المدن والأقطار التي تحت السلطة العثمانية. ووضعت الكلمات الثلاث (المساواة والحرية والعدالة) شعاراً للدولة. وكذلك نقشت على العملة العثمانية. وفتحت فروع لحزب (جمعية) الاتحاد والترقي في كل المدن. ظاهرها يختلف عن مبادئ الاشتراكيين. كما شكل الأرمن جمعيات علنية وبعلم الدولة. وبعد حين اتضح لهم بأن الحرية لن تمنحهم حكما ذاتيا، ورغم ذلك فقد اكتفوا فقط بالمطالبة باجراء اصلاحات خاصة بأرمينيا. هذا كل ما طالبوا به، والحوا على ان يطبق جديا وعمليا. غير ان الاتحاديين لم ينكثوا العهد فحسب، بل إستاءُوا من مطالب الارمن . فهؤلاء، اي الاتحاديون ومثل سابقيهم، قد أضمروا ألشر للأرمن، فاخذوا يتحينون الفرصة لابادتهم، وقد أتتهم هذه الفرصة مع بداية الحرب العالمية، كما سنرى بعد قليل ـ. لما رأى عبد الحميد أنه ظل متربعا على العرش، ومتوهما بأن ليس بامكان احد زحزحته عن هذا العرش، تأجج في صدره حب الاستبداد بالرأي، فحل الشروط والغاها (اي اتفاقيته مع الاتحاديين وحلفائهم) واستولى على دار الشورى فاغلقها، بعد ان طرد منها المستشارين وشتتهم. وللانتقام من الأرمن مبغضيه، حلفاء اعدائه الاتحاديين، عمل اولا على ابادة أرمن قيليقية، بعد ان علم بتحركاتهم هناك، وذلك باثارة الغوغائيين من عامة الشعب عليهم، فضربهم ضربة ماحقة. وقتل خلال تلك الاحداث قرابة الستين شخصا من أبناء جماعتنا الكلدانية الساكنين بينهم. كما احرق الرعاع في تلك الهجمة، كنيستنا التي في قيليقيا. وقد جرت تلك الأحداث عام 1909م. وما ان انجلى كذب وخداع الشرير، وعودته من جديد الى طغيانه المتأصل فيه، حتى جَهَّزوا قوات كفوءة وتوجهوا بعزم لا يلين الى العاصمة. فحاصروه في قصره وانتصروا عليه، بعد ان وقع من الجانبين العديد من القتلى. فالقوا القبض عليه، وعزلوه عن العرش عنوة. وذهبوا به يصحَبُه عددٌ من نسائه، الى القصر اللاتيني في تسلانيك. حيث حُجِزَ تحت حراسة مشددة. وأقاموا بدلا عنه اخاه رشاد، بعد ان وافق على شروط الاتحاديين. اما مصير عبد الحميد، فقد ظل سجينا في منفاه، في تسالونيقي حتى اندلاع حرب البلقان، فنقل الى اسطنبول، قبيل سقوط تسالونيقي بيد اليونان، وفي اسطنبول ظل سجينا حتى وفاته التي كانت في ربيع عام 1918م. بعد استيلاء الاتحاديين على مقاليد السلطة (في الدولة العثمانية)، حاولوا عبثا حل المشاكل الاقتصادية التي كانت تعاني منها البلاد، والتي كان احد اسبابها، الحربين (الخاسرتين) اللتين خاضتهما ضد كل من ايطاليا ودول البلقان. ـ وقبلهما كانت الحرب التي فيها خسرت تركيا مقاطعتي البوسنة والهرسك، اللتين ضُمَّتا الى ممتلكات امبراطورية النمسا وهنغاريا، وقت انشغال الاتحاديين في انتفاضتهم لعزل عبد الحميد ـ فالحرب الأولى التي كانت مع ايطاليا الدولة التي انتزعت مدينة طرابلس الأفريقية (عاصمة ليبيا الحالية) من السيطرة العثمانية، وبعد فترة وجيزة تمكن الايطاليون من الاستحواذ والسيطرة على الاراضي الليبية كاملة. اما الحرب الثانية والتي كانت مع دول البلقان بعد فترة قصيرة جدا من الحرب العثمانية الايطالية، وفيها شُلَّتْ القوات العثمانية وخرجت من الحرب مدحورة. ونتيجة هذه الحرب فقد انسلخت المقاطعات الستة المتبقية في هذه الجزيرة، من جسم الامبراطورية العثمانية، وكذلك جزر الارخبيل ومنها جزيرة ميداليني الجميلة، الواقعة بجوار زمورنا. فالارمن الذين رأوها فرصة سانحة في اعقاب تلك الأحداث، وما سبقتها من حروب، لم يكفوا سواء ارمن الداخل او الخارج من المطالبة وبالحاح باجراء اصلاحات في ارمينيا، وباعادة اراضيهم وممتلكاتهم التي ضبطت منهم في احداث عام 1895م. ان بولس باشا مثلهم المقيم في مصر، اخذ يتنقل بين باريس ولندن مطالبا بتجديد الرقابة فورا وتشديدها (على السلطات العثمانية). وقد نجح في مساعيه بتشكيل لجنة مفتشين من دول اجنبية من هولندا ودول اخرى غيرها (من جهة)، وبموافقة السلطان رشاد (محمد الخامس) وممثلين عن الحكومة العثمانية (من جهة ثانية)، غايتها منع حالات الانتقام وإجراء الاصلاحات الضرورية (في ارمينيا). لكن لم يكتب لهذه اللجنة الحياة، لاشتعال نار الحرب بين النمسا وصربيا في 30/ تموز/ 1914م، قبيل توجه اعضائها الى اسطنبول للمباشرة بمهامهم. وبعدها استشرى سعير تلك الحرب الى دول اخرى، فسميت بالحرب العالمية، وبسبب هذه القلاقل سقطت الامة الارمنية مثل حبة (القمح) في اتون الحرب المتأجج، واحترقت به نهائيا. دخلت الدولة العثمانية هي الاخرى هذه الحرب الضروس وانضمَّت الى المانيا وحليفاتها، آملة من ذلك لا فقط الحفاظ على وحدة امبراطوريتها الهرمة فحسب، بل لاستعادة الاقطار والمقاطعات التي انسلخت منها في السنوات الاخيرة، ولطرد الانكليز من مصر. في الوقت الذي كانت غيوم الحرب السوداء وسُحبها الداكنة، تخيم فوق اجواء الدول، وبروق ورعود الاسلحة النارية تزأر من كل الجهات وتزلزل الارض تحت اقدام سكانها، واسس الجبال الشاهقة تهتز من اصواتها وترتعد. امتلأ الهواء من رائحة البارود وتلبد بدخان نيران الحرب المستعرة كأن وقودا تغذيها. وعواصف الغبار المعتمة التي تذريها سنابك خيول المقاتلين والفرسان المتسابقة، والآليات (العسكرية) المفزعة التي لا يحصى عددها تغطي مساحة اوربا وجزءا من آسيا، ان الانسان لا يمكنه رؤية اخاه الانسان. وفي هذا الزمن المضطرب نهض الاتحاديون وبحذر، لتنفيذ مآربهم الشريرة التي يضمرونها للارمن. وقد وجدوا ضالتهم في هذه الظروف الملائمة جدا. فارسلوا اولا في طلب الضباط الذين في العاصمة، وابلغوهم شفويا، عن موعد وكيفية القضاء على هذا الشعب البائس. ليقلعوا جذوره حتى لا تكون لهم قومة والى الابد. وقد استثنيت (في البداية) كل من ماردين وسعرت والجزيرة وآمد. غير انه ومثل الصورة التي تعكسها المرآة يُرى جليا كل ذلك المصاب الاليم والشر الذي ألم بهذا الشعب اينما وجد، اذ تمت ابادة هذه الامة الشهيرة والعريقة ببربرية ووحشية لا يمكن للعقل البشري ان يتصورها. ومما ذكرناه وباختصار، يمكننا القول بان الارمن هم الذين جنوا على انفسهم، اذ لم يكن بامكانهم ان ينالوا استقلالهم، ذلك كونهم مختلطين ومتداخلين مع الشعب التركي، الذي يسود البلاد، كامتزاج الخمرة بالماء. كذلك هو حالهم بين العشائر الكردية في كل مدن وقرى ارمينيا. ونسبتهم الى هؤلاء ضئيلة جدا. وحتى لو نالوا الاستقلال، فلا توجد لهم مدينة واحدة سكانها كلهم من الارمن. ويمكننا القول بان الحكومة العثمانية، بصبر كبير تحملت، ولفترة من الزمن، تحركاتهم غير الشرعية. كان على الارمن ان يتعظوا من الدرس القاسي الذي تلقنوه في احداث عام 1895م. اذ كم كانت ابادتهم سهلة، لكنهم لم يتعظوا. إنما نتيجة ذلك وضعوا نصب اعينهم احد الأمرين لا ثالث لهما، فاما الموت او الانعتاق والتحرر من نير الاتراك الطغاة. لا بل ومن الظلم والجور والشر المستمر الذي لا يطاق والذي يعانون من جراء معاملة العشائر الكردية لهم، هذه العشائر المجبولة بالجهل والوحشية. اذ منذ قرون خلت يعيشون ويسكنون معهم وحواليهم. وكذلك نتيجة قساوة وهمجية بقية الاقوام التركية المختلطين معهم، هذه الاقوام التي استحوذت واستولت على المدن والقرى والاراضي الارمنية، واعتبروا غرباء في ارضهم منذ القرن الثالث عشر. بأحرى القول، غرباء منذ القرون الوسطى. اذ من المعروف بان لم يكن من منازع للامبراطورية العثمانية في تلك الفترة لقوتها وبأس جيشها. فأُذِلُّوا وعُذِّبُوا بسبب سياسة العثمانيين الدينية والمدنية على حد سواء. اذ ان هذه الادارة كانت ومنذ بدايتها الى ان لفظت انفاسها الاخيرة، تتصرف بذات الاسلوب، اي باسلوب قمع جميع الأمم والشعوب المسيحية التي في الاقاليم والدول التي احتلها الجيش العثماني. فتلك السياسة كانت السبب في قتل الآلاف من المسيحيين وظلمهم والاساءة اليهم، من الذين كانوا يرزحون تحت نير العبودية العثمانية. ولم ينل المسيحيون الذين يعيشون تحت حكم دول اخرى (غير مسيحية)، مثل جارتهم الدولة الفارسية، من الظلم والقساوة التي نالها مسيحيو الدولة العثمانية، عدا اوقات قليلة ومعينة. اذ ان معظمهم يقيمون بين العشائر الكردية وفي قراهم ومدنهم. فلم ينزل هؤلاء الاكراد الى ذلك الدرك من الانحطاط الذي بلغه اكراد الدولة العثمانية، في تعاملهم مع مئات الآلاف من المسيحيين. وان حدثت فلفترة قصيرة جدا وكانت تنطفئ شرارة تلك المظالم. ازاء كل ذنب او جرم يقترفه شعب كان او فرد، يعاقب عليه شخصيا ومنفردا، وذلك بما تمليه القوانين والأعراف المعمول بها في سائر دول العالم. ان الأرمن، وكما بيَنَّا فيما مضى، لم يقترفوا اثما أو جرما بحق الدولة ولا بحق الاتحاديين، سوى مطالبتهم بحريتهم لا غير. فهل يستوجب هذا الطلب كل هذا العقاب القاسي والصارم، الذي هوى على الشعب ألأرمني (مع بقية المسيحيين من قوميات اخرى)؟ والذي لم يُسمع مثله قط، ولم يحدث له مثيل منذ بداية التاريخ، الا في العصور المظلمة. وبين شعوب كانت تتسم بالبربرية والوحشية والتي كانت تسجد للكائنات . كالاضطهادات التي شنها الرومان على المسيحيين في الأجيال الثلاثة الاولى لتأسيس الكنيسة، وكمثل تلك التي حدثت في بلاد فارس في الجيلين الرابع والخامس للميلاد . والسبب الحقيقي لتلك الاضطهادات التي تعرضت لها المسيحية في اجيالها الاولى، لم تكن الا لأسباب دينية بحته. اذ ان ظهور الديانة الجديدة وتنظيماتها العجيبة والتي كانت تنتهرهم على عاداتهم القبيحة بسجودهم للأصنام. اذ ابطلت وازالت ديانتهم التي كانوا يحبونها ويعتزون بها. لكنهم ورغم ذلك لم يضطهدوا المسيحيين بالشكل الذي به اُضْطُهِدَ الأرمن. وان كانت الاضطهادات لم تهدأ الاّ بعد ان ازيلت مدن وقرى من سكانها، وأفرغت حتى من النساء والأطفال. غير انهم تركوا الباقين (من غير المسيحيين). لم تكن قوانين الرومان تقضي بقتل النساء جماعيا، لكنهم قاموا بذلك احيانا من اجل الشهادة للمسيح فقط. ان ابادة شعب برمته واجتثاثه من جذوره، وفي القرن العشرين عصر النور والتمدن، لم يحدث الا عند الاتحاديين. وان ادعاءهم وعذرهم بانهم لم يكونوا ينوون ابادتهم، بل ابعادهم ونفيهم خارج حدود المناطق الملتهبة بسبب الحرب، وان الاكراد قطاع الطرق هم الذين قتلوهم في الطرق اثناء ترحيلهم. هذا الادعاء لن يبرر فعلتهم الشنيعة تلك، ولن يقنع حتى العجائز مهما بلغن من السذاجة. فقد قتل في قيليقيا فقط، اربعون الفا ومنهم من يقول سبعون الفا، بعد سنة من ترحيلهم الى دير الزور، حيث قتلوا سنة 1916م. وهل كان على الحدود الروسية كلدان او سريان؟ عدا اولئك الذين يعيشون في ماردين وآمد وسعرت، حيث لا وجود للأرمن اطلاقا في الجزيرة، التي القي اساقفتها وكهنتها في سجن تلك المدينة وقتلوا، فهل كان هؤلاء في المنطقة الحربية؟ ولما رُحلوا هجم عليهم الأكراد في الطريق وقتلوهم. وماذا عن الأرمن الكاثوليك؟ ان هؤلاء لم يكن لهم اي اختلاط او علاقات مع اشقائهم الأرمن الأرثدوكس، لا في جمعياتهم ولا في احزابهم، ولا حتى في دعوات بني قومهم في انشاد الحرية. اضف الى ذلك الهوة الواسعة التي تفصل من حيث المعتقد الديني، الشطرين الأرثدوكسي والكاثوليكي. عدا الذين في اسطنبول، واماكن اخرى قليلة، حيث في السنوات الأخيرة انضموا الى اشقائهم بالمطالبة بحقوقهم. فان ارمن ماردين وضواحيها من الكاثوليك لا يختلفون عن الارثدوكس بالمعتقدات فحسب، بل وحتى في اللغة. اذ انهم يتكلمون العربية ومنذ اجيال، عدا الصلوات والطقوس الكنسية التي لا تزال باللغة الأرمنية، ولا يوجد بين هؤلاء من العلمانيين من يعرف كلمة واحدة من الأرمنية او يتكلمها. ولهذا السبب انهم مكروهون ومنبوذون من قبل ابناء قومهم المحافظين على لغتهم، وكانوا يعدونهم بحساب الخارجين عن قوميتهم ألأرمنية التي يحبونها كثيرا. اية علة يتعللون بها كي يستحق هذا الشعب كل هذه الصنوف من المعاناة والاضطهاد لحد الابادة؟ اننا تتبعنا الأحداث لنجد سببا يُقنع القراء لايقاد نار الاضطهاد المتأججة، فلم نجد سببا غير كونهم مسيحيين لا غير. فانتهز اعداؤهم فرصة (اشتعال الحرب وانشغال العالم بها) فابادوهم. ان هذا الاضطهاد، كان اضطهادا دينيا، مثل الاضطهادات التي تعرض لها المسيحيون، في كل من الشرق والغرب، في القرون الاولى للمسيحية. ومن واجبنا ان نعلن هذه الحقيقة في كل الاوقات والازمنة، ونقول: كان الأجدر بالاتحاديين ان يُبعدوا ويَنفوا او حتى أن يقتلوا مثيري الشغب والاضطرابات وابادتهم أو طردهم من المملكة كما تعاملت روسيا مع الجركس، واسبانيا مع اليهود، وكما تتعامل في ايامنا هذه المانيا مع اليهود. لكن قتل الآلاف لا بل مئات الآلاف، من النساء والبنات والأطفال الأطهار، هذا عدا الرجال الذين لا يحصى عددهم. من الذين لم ترق لهم اعمال وافكار طالبي الاستقلال والحرية. فهؤلاء ايضا ذبحوا كالنعاج والخراف حين وقعوا بين انياب الذئاب من الأكراد والعرب والجركس، لأن الاتحاديين هم الذين أمروا هؤلاء بأن يهدموا دور المسيحيين ويخرجوهم بلا رحمة وأن يصطادوا منهم ما يحلو ويروق لهم. ولا اظن أن هناك قوانين في العالم المتحضر تدعو لمثل هذه الفاجعة. ولا يمكن لأي انسان في العالم كله، مهما بلغ من الوحشية والبربرية، ان يغفر للاتحاديين وميليشياتهم سفاكي الدماء، خطفة، قساة القلوب، اعداء الانسانية، المملوؤن سُمّا زعافا، من هذا الاثم الكبير الذي لا يغتفر ولن يُمحى الى آبد الآبدين. تلك التي كانت وستكون وصمة عار على جباههم حتى يوم القيامة. هذه الوصمة التي ستعلن عن ظلمهم وقساوتهم وتكشف عن جرائمهم على الملأ كله، وتظهرهم على حقيقتهم، مؤشرة نحوهم بأنهم نمور مفترسة تعيش بين البشر. وان مياه ألأنهر والبحار مجتمعة لا يمكنها ان تطهرهم وتنظفهم من سفك الدم الطاهر الذي تلوَّثوا به، من قمة رأسهم حتى اخمص قدمهم. مما كتبناه في هذه المقدمة، يمكننا اجماله واختصاره وبدون ادنى شك او ريب، بأن سبب ابادة الشعب الارمني الغريغوري، عدا المتمردين ومسببي الاضطرابات، لا بل جميع مجاميع النسوة والبنات والأطفال، كان الحقد الديني، الذي يكنه المسلمون للمسيحيين. وعليه فبرأيي، انهم شهداء للدين المسيحي. لأن جموع النسوة والبنات والأطفال لم يشاركوا مَنْ اعتبرهم الاتحاديون مشاغبين، وان لم يقوموا بتلك الاضطرابات، الا ليسترعوا انتباه الاتحاديين وتذكيرهم بالوعود التي قطعوها معهم، اي منحهم الحكم الذاتي، أو اجراء اصلاحات مدنية، لينالوا شيئا من الحرية والكرامة الانسانية. فكان مصيرهم الموت كمصير المجرمين العابثين بالامن، وقد اسلموا للموت بدون جريمة ارتكبوها ولا محاكمة اصولية. وفي الساعة الرهيبة، ساعة كن يُقَرَّبن للذبح، كن مواظبات على الدعاء الى المسيح، ليساعدهن في جهادهن، كما شهد بذلك القتلة انفسهم. ان قتل الأرمن الكاثوليك من آمد وماردين وضواحيها، رجالا ونساء وابناءهم جميعا، تم دون محاكمات اصولية ، وبلا اي ذنب او جرم اقترفوه ضد المملكة أو قوانينها. انهم قتلوا فقط، كونهم مسيحيين لا غير. فجميع هؤلاء أسميهم شهداء في الكنيسة الكاثوليكية . ويجب ان يُحصوا في صف مواكب الشهداء، لأنهم من اجل ايمانهم المسيحي، سفكت دماؤهم الطاهرة في القرن العشرين.

مقدمة ثانية في سبب اضطهاد الأرمن والكلدان والسريان

وبعد التمحيص وقفنا على السبب الواهي الباطل، الذي اتخذ ذريعة لاضطهاد الأرمن وابادتهم. اذ كانوا قد طالبوا بحريتهم. غير اننا لم نستطع ان نرى اية ذريعة مهما بلغت من التفاهة لاضطهاد الآراميين، الذين امتزجت دماؤهم مع دماء الارمن، وفي نفس الزمان والمكان والمصير وبدون اي تمييز، رغم كونهم ابرياء من ذنب اولئك (ان كان لهؤلاء اي ذنب)، لكنهم واجهوا المصير ذاته. والسبب لأنهم كانوا موضع حسد السلطات المدنية . لم ولن نجد لا نحن ولا غيرنا، مهما حاولنا البحث، لا في الماضي ولا في الحاضر، ذنبا اقترفه هذا الشعب الصغير البائس المتشتت، ولا عصيانا او تمردا او مقاومة، ولا حتى اساءة مهما كانت صغيرة بحق الدولة وانظمتها أو امرائها او سلاطينها، صغارا كانوا ام كبارا، في اي مكان وزمان. ولا حتى ضد مواطنيها ورعاياها، اذ معهم وبينهم ينتشر ويسكن الشعب الآرامي، منذ ان جاء الأتراك والأكراد واحتلوا بلادهم. كان باستطاعتهم اتهامهم بتلك التهم وتعظيمها مهما بلغت تفاهتها، لينالوا مآربهم الشريرة. أية مقاومة ابداها يا ترى هذا الشعب الذي كان مضطهدا ومغموما منذ مجئ هذه الأقوام واحتلالها لبلادنا، اذ كان ولا يزال شعبنا المسيحي، كالخراف بين الوحوش الكاسرة والحملان بين الذئاب، وبسببهم فان كثيرين قضوا شهداء، ناهيك عن الذين ورد ذكرهم في كتب التاريخ القديم والحديث. ان الأمراء والحكام لا يملكون ما يبررون به ساحتهم من هذا الاضطهاد اذ يقولون: ان الذين قتلوا من المدن والقرى كانت زلة من القتلة وغلطاتهم. لأن الأكراد ولخبثهم المعروف، ابادوهم بينما نحن منشغلون في الحرب. ان هذا العذر غير المبرر والضعيف والتافه ليدعو الى الضحك والسخرية. وهذا الادعاء السخيف، لن يقتنع به حتى الاطفال الأبرياء، لأن اللجنة التي اصدرت اوامر الترحيل والاعدامات كانت مؤلفة من رؤساء المدينة وحكامها. وقد رأينا بأم عيننا كيف كانوا يجمعون من شوارع وحوانيت وساحات المدينة، المجاميع من ابنائنا من الكلدان والسريان والطوائف المسيحية الأخرى. فمن الكنائس اخرجوا الكهنة والشمامسة والقوهم في السجن. وبعد ان اساموهم هناك انواعا من العذابات، ذهبوا بهم الى خارج المدينة وقتلوهم بأمر من حاكم المدينة الذي كان ماردينيا. هذا ما يخص اهالي مدينة ماردين. وفي آمد (ديار بكر) فان خمسة وثمانين بيتا برجالها ونسائها واطفالها، كانوا قد اقتيدوا ضمن قافلة واحدة وقتلوا. وكانوا قد اتوا بهم الى ماردين ووضعوهم في كنيسة مار كوركيس التي للأرمن، وكان من بينهم كثيرون من الكلدان ومنهم شقيق القس سليمان كوجك اوسطا احد كهنتنا الكلدان في آمد، مع افراد عائلته ووالدته العجوز. وقد استطاع هذا أن يأتي عندنا برفقة حارس، كانت له به معرفة جيدة. وهو الذي ابلغنا بذلك. وعن لسانه قدمنا عريضة الى المتصرف مبينين فيها بان ضمن القافلة من هم من الكلدان. وان الأوامر لا تقضي بقتل الكلدان، حسبما ورد في البيان الذي قرأه المنادي. وقد توسلنا به بأن ينظر بعطف في امر هؤلاء ويطلق سراحهم، لكنه رفض الطلب. اما في نصيبين والجزيرة وميافرقين وسعرد ومدن اخرى، فان الأمراء والحكام والعساكر الذين في تلك المدن وبالاشتراك مع الأكراد الذين اتوا بهم من الجبال فقد اخرجوهم من بيوتهم رجالا ونساء واقتادوهم خارج المدن وقتلوهم. غير ان العسكر وبأوامر من الحاكم اخرجوا اولا الرجال من البيوت وسجنوهم وكذلك سجنوا النساء والاطفال ثم ذبحوا منهم، ومنهم من سبي واستعبد. فاليك ايها القارئ اللبيب ما يقوله اهالي ماردين: ان الكاثوليك هم من اتباع البابا، واعداء للمملكة وخونتها، ولهذا امرنا بابادتهم!! وبما ان اليعاقبة (السريان الأرثدوكس) ليسوا موالين لأية جهة اجنبية منذ بدايتهم، لذا فهم من احبائنا وفي حمانا. وعليه قد حافظنا عليهم ولم يُمَسَُوا بأذى، داخل المدينة كما فعلنا بأولئك المسيحيين من غير اليعاقبة. وبعد ان هدأ الاضطهاد واوقف السيف، فان الرجال والنساء من اكراد ماردين أخذو يحثون ويهددون المسيحيين، رجالا ونساء ممن نجوا من المذابح، لنبذ المسيحية واعتناق الاسلام، ولن يكون مصير الرافضين غير الموت. في ربيع سنة 1918م، جُدِّدَ الفرمان السري الخاص بابادة الأرمن الذين نجوا من هذا الاضطهاد، لكن وبسبب مراحم الله المسجود له، لم يُعمل به، ولا نعلم السبب الحقيقي لذلك، غير تلك الشائعات الغير الموثوقة المصادر التي تقول: انه بوساطة امبراطور النمسا وهنغاريا فرانسوا جوزيف وبطلب وايعاز من قداسة البابا بندكتس الخامس عشر. ولكن لماذا، ولأي سبب صدر هذا الفرمان الجديد، بعد ان سقط الكثير من المسيحيين في تلك الأيام كسقوط الاوراق اليابسة من اشجارها ايام الخريف، اذ كانوا يسقطون في كل مكان ويهلكون جوعا. فهل من هؤلاء الأشباح يخاف الأتراك كي لا يتمردون على مناصبهم ودولتهم؟ نستخلص من الأسباب التي اثارت الأضطهاد على المسيحيين بأن لم يكن هناك سببا يحاكمون عليه، غير الحقد الدفين والعداء المتعاقب والموروث من العقاقير المسمومة الضاربة في القدم، والتي تثور وبلا هوادة على كل من لا ينقاد لمبادئهم ولا يدنوا ويتذوق من دوحتهم المرة الثمار. وفي الختام، نستطيع ان نجزم القول: بان كل اولئك الذين استشهدوا وخاصة من الكلدان والسريان الكاثوليك في كل من آمد وسعرد وماردين والجزيرة ونصيبين وغيرها من المدن والقرى التي لا تحصى، من مطارنة وكهنة وشمامسة ورجال ونساء وفتيان وفتيات وأطفال رضع، في وجهة نظري هم شهداء حقيقيون للديانة المسيحية. لذا يحق للكنيسة الكلدانية ان تفتخر امام امم الأرض كلها، بانها وحتى في القرن العشرين، هي كنيسة الشهداء، كما كانت ومنذ انطلاقة المسيحية في بلاد بين النهرين، وخاصة ايام شابور الثاني، وغيره من الملوك الذين توالوا حكم هذه البلاد. وقد اعطت هدية اكثر قبولا وتقديرا، عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الشهداء، نالوا اكليل الشهادة حفاظا على درة الايمان المسيحي الثمينة التي في قلوبهم وضمائهم، ومن اجل المسيح يسوع الشهيد ألأعظم. وهم كالنسغ الروحي، واسمى من الطبيعة يجري في عروق الدوحة الباسقة الأغصان. تنويه: ان سبعين شخصا من ابنائنا الكلدان الماردينيين، قتلوا اضافة الى العدد الكبير من الشبان الذين سيقوا الى جبهات القتال، ولم يعد أحدٌ منهم. اما من كلدان مديات وكفركوزى (كفر جوز) فقط، فقد اقتيد وقتل واحد وخمسون شخصا، واسماء الرجال والنساء موثقة عندنا. كان عدد الأرمن الكاثوليك في ماردين اكثر من ثمانمائة عائلة، فهؤلاء جميعهم مع خمسة وخمسين عائلة كلدانية كانت تعيش بينهم في منطقة تل ارمن، قد ابيدوا عن بكرة ابيهم. وفي نصيبين ابيدت ثلاثون عائلة عن بكرة ابيها، اي رجالها ونساؤها مع اولادهم جميعهم.

القسم الأول

  • الفصل الأول

في شباط سنة 1915م، أي بعد سبعة أشهر من بدء الحرب العالمية (ألأولى)، صدر أمر يقضي باعفاء كافة المسيحيين من مناصبهم التي يشغلونها في دوائر الحكومة، وعلى كافة المستويات، في الأراضي العثمانية كلها. ثم صدر امر شديد اللهجة يلزم المسيحيين كافة، بتسليم جميع ما بحوزتهم من الاسلحة والأعتدة، وخلال ثلاثة ايام فقط. وعلى اثر هذا قام العسكر بمداهمة دور المسيحيين تحت ذريعة البحث عن الأسلحة المخبأة، فأخذوا يضربون النسوة ويسخرون ويستهزئون بهن، كما اخذوا يحفرون في باحات الدور وفي الكنائس وحتى في المذابح المقدسة المكرسة لتقديم الأسرار الالهية، ويهدمون الجدران ويقلعون الأسس، ولم يحصلوا على شئ. ذلك لأن لم يكن للمسيحيين ايُ سلاح. وفي شهر آذار من تلك السنة، جاء الدكتور رشيد من الموصل بعد ان اعفي من حكم ولايتها، فعين حاكما لولاية آمد. فما ان وصل هذا الطاغية، حتى سعى لتطبيق آراء جميعة الاتحاد (والترقي) التي دعت الى ابادة الأرمن، كما سنرى بين طيات هذا الكتاب. فان هذا الرجل، اي د. رشيد، منح صلاحيات، كانت سرية ومهمة للسيد حلمي متصرف ماردين، طالبا منه العمل بموجبها. أي ابادة أرمن ماردين وضواحيها بلا تمييز. وبما ان هذا الرجل (أي حلمي بيك)، كان عادلا ونزيها، طلب ايضاحا اكثر، ولم يرغب في المشاركة باراقة الدماء الزكية. فكتب بكل ما اوتي من قوة للحاكم بالاضافة الى انه قابله شخصيا مرات عديدة موضحا له بأن هذه الأوامر والتعليمات لا تعني كل مسيحيي ماردين، لابل انهم يستنجدون به ولا يملكون اي سلاح. كما انهم يختلفون بالقومية عن الأرمن الذين يخالفونهم حتى في معتقداتهم. وفي الأخير حين رأى ان مساعيه، إن كانت بزياراته الخاصة وتوسلاته، او بمكاتباته وبرقياته التي كان يرسلها الى الوالي، تبوء بالفشل ولا فائدة ترجى منها، طلب اعفاءه من منصبه. فقبل طلبه، وعين بدلا عنه شفيق بيك الذي نقل من ولاية وان. وكان مطلعا على القلاقل التي حدثت في ماردين، يوم كان متصرفا على ماردين ، قبل ان يتولى متصرفيتها ’حلمي بيك‘. ولكون شفيق بيك صديقا حميما لحلمي بيك ورجلا عادلا لا يرضى بالظلم، ولم يشأ الانزاق والمشاركة في هذا الجرم والاضطهاد الكبير، طلب هو الآخر اعفاءه من هذا المنصب، ونقل على اثرها الى بغداد بوظيفة كاتب الولاية. واقيم بدلا عنه بدري بيك الذي على يده كانت المأساة. حينئذ ارسل رشيد ياوره (وصيفه) توفيق بك الجركسي ، ومعه ممدوح قوميسير (مدير شرطة) آمد. وامرهما بأن يطلبا من اهالي مدينة ماردين، ان يُدِلُّوهما على حوالي عشرة اشخاص من الأرمن والذين لهم كلمتهم بين قومهم، ثم يلقيا القبض عليهم. كان رشيد يعتقد بأن اهالي ماردين من المسيحييين والمسلمين، يعيشون بمحبة ووئام منذ القديم، ولا توجد بينهم اية خلافات او انقسامات ولا عداوات، وعليه لم يكن يتوقع موفداه وهما في طريقهما الى ماردين، النجاح في مهمتهما. غير انهما بوصولهما ماردين واجتماعهما بالمسلمين من رؤساء واشراف ورؤساء عشائر مدينة ماردين، كذَّبَا تكهناتهما، اذ لم يكن اؤلئك الذين اجتمعوا بهم، مستعدين على تسليم الأشخاص العشرة الذين طلبوا منهم الاشارة اليهم من رجال الأرمن الكاثوليك، بل كانوا على اتم الاستعداد على تسليم كافة مسيحيي ماردين وضواحيها للموت. وهذا اثلج صدريهما، فشكلا لجنة مؤلفة من اربعين شخصا من مسؤولي وأشراف ورؤساء عشائر ماردين برئاسة عبد القادر باشا الحاج كوزي ومفتي المدينة المدعو حسين، ورئيس الحامية خدر كوميري وآغوات عشائر كل من شهتانا وميلالي والحاج كرمو وآشايا ومنديكانية وميشكاوية، فالعشائر الثلاث الأخيرة هي من العشائر الكردية التي تسكن ماردين منذ زمن بعيد. هذه اللجنة هي التي أصدرت اوامر واحكام ابادة الرجال والنساء وكيفية تصفية تلك الأنفس الكلية الطهر والنقاوة. ولتنفيذ قرارات ابادة المسيحيين، كلفت اللجنة للقيام بهذه المهمة الدنيئة، عددا من الرجال ممن تزيد اعمارهم على الخمسين عاما، كون الذين اقل من هذا العمر كانوا قد اخذوا جنودا وسيقوا الى جبهات القتال، وقتلت غالبيتهم. وقد هيأوا هذه المجموعة لتنفيذ المجزرة، بأمر خدر كوميري رئيس الحامية. وهو الذي اعطى الأوامر للقتلة الذين كانوا ايضا من اهالي مدينة ماردين، لتنفيذ المجازر بحق المسيحيين اصحاب البلاد الاصليين.

  • الفصل الثاني

في القاء القبض على الأساقفة والوجهاء

عصر يوم عيد الجسد الذي صادف 3/ حزيران/ 1915م، القي القبض على مار اغناطيوس مالويان رئيس اساقفة ماردين وتوابعها للأرمن الكاثوليك، المارديني المولد. رجل غزير العلم والمعارف، وذو كلام فصيح بليغ، كان وقتئذ في العقد الخامس من عمره. ومعه ايضا كاتم اسراره (سكرتيره الخاص) القس بولس سنيور الشاب المهذب المثقف. وفي اليوم التالي القوا القبض على كل رؤساء ونبلاء ووجهاء الأرمن والسريان والكلدان، اذ بلغ عددهم الخمسمائة وشخصين، ومن بينهم كهنة الأرمن والسريان الكاثوليك. فاخذوا يعذبونهم لانتزاع اعترافات منهم عن اماكن خزائنهم، لأنهم فتشوا في الدور وحفروا في الكنائس وأزالوا الأسس والجدران وفتحوا القبور وحتى توابيت الأساقفة المدفونين في الكنائس، ولم يعثروا على شئ. غير ان اظهار رسالة من شخص ارمني يدعى سركيس، مرسلة الى المطران مار اغناطيوس مالو، جاء فيها: ها اننا قد هيأنا البنادق مع العتاد، وقد اشترينا منها حوالي الستة احمال . وسنكون قريبا عندك مع السلاح. هذه الرسالة كانت ذريعة واجبة لادانتهم وقتلهم. وبما ان ذلك السجن لم يسعهم فقد عزلوا منهم عددا غير قليل وحجزوهم في مستودع كان قد افرغ للتو، وكان مملوءا من العفونة والسوس والديدان والقمل، اذ لم يكن في ذلك المستودع فتحات كافية لتغيير الهواء وسحب الروائح المتعفنة، وادخال الهواء النقي، عدا فتحتين في الأعلى عند السقف. وعليه فقد نتنت الروائح وتقززت في ذلك المستودع، اذ لم يكن باستطاعة انسان ان يتنفس بصورة جيدة. وفي تلك الهوة القي الذين يُسَبِّحون المسيح من اهالي ماردين، لفترة بلغت اسبوعا واحدا. وكان الأرجاس يخرجون الكهنة كل يوم ويأمرونهم بكنس أزبال ساحة القلعة وتنظيف مراحيضها، تحت سيل من الشتائم والمسبات والضرب المبرح ونتف اللحى والبصق في وجوههم، هذا نهارا، اما في الليل فيأخذونهم الى السجن التحتاني حيث كان المطران مار اغناطيوس مالويان ورفاقه مسجونين، فيسومونهم اصناف العذاب، اسوة بالمطران. اذ كانوا يخلعون عنهم ملابسهم ويعلقونهم ويضربون اجسادهم العارية بالعصي. ومنهم من كان يضرب على اصابع قدميه، بعصي طرية وذات نتوءات، هذا ناهيك عن الفلقة. ولم يتوقفوا عن تعذيبهم حتى يروا الدم يتدفق من اجسامهم. وبسبب قساوة التعذيب الذي كانوا يتعذبوه فان عددا منهم لم يستطع احتماله، فلقوا حتفهم من شدة الآلام، وآخرون صبوا النفط في افواههم فاحترقت.


D

D

D

D

D

D

D

D