Changes
كتبت بايجاز كبير عن الجهاد (الروحي) لهذه النخبة، فقط لأعطي فكرة لا غير، للقارئ الكريم، عما عانوه هم ورفاقهم في الجهاد، من اصناف العذابات والأستهزاء والسخرية، التي احتملها الكثير من مسيحيي ماردين من مضطهديهم حُبّا بالمسيح المخلص. ويلزمنا واجبنا ان نقول: بأن معظم مسيحيي ماردين كانوا من اثريائها ووجهائها، كما وهو لزام علينا ايضا، اظهار الجلد والصبر وعزة النفس والبطولة التي ابداها الشهداء الأبرار، حتى أدهشت أعداء الصليب. اذ رفعوا اصبعهم مندهشين، وهم يصرون اسنانهم، قائلين: ’في الحقيقة ان زرع النصرانية لا يقهر‘.
* ''' الفصل السابع '''
''' في اقتياد زمرة البنائين وارتداد البعض منهم '''
بعد استشهاد غالبية المجموعة الثانية، التي اعيد قسمٌ منها من آمد، كما بيّنا (في الفصل الخامس)، القي القبض على زمرة البنائين. كان يربو عددهم على المائتين والخمسين شخصا. ففرزوا من بينهم مائة وخمسة وثلاثين شخصا، واصعدوهم الى القلعة التي في اطراف المدينة، حيث عذبوا بقساوة وحشروهم في سجن صغير، خالٍ من الفتحات لتغيير الهواء، وهم جياع عطاش ومرهقون، حتى كادوا ان يختنقوا من شدة الحر. طلبوا ان يخرجوا الى خارج قاعة السجن ليتنفسوا القليل من الهواء، فلم يجدوا من يرأف بهم. كما طلبوا ايضا ماءً ليرووا به عطشهم، فلم يُعطَ لهم. لكن (بعد أن رشوهم) بالنقود، اعطوهم ماء فشربوا، لا بل حتى سمحوا لعدد منهم ان ينام في الهواء الطلق. وبعد ايام ارتاحوا من العذاب، اذ اخرجوهم من ذلك السجن، وبينما هم نازلون من القلعة، انهالت عليهم الضربات كالمطر. ترنح من شدة تلك الضربات، رجل يدعى جرجس يهبايا، فسقط على الارض، حينئذ هجم عليه المشعوذون ورجموه حتى فارق الحياة. جاء اقاربه بعد حين واستلموا جثته ودفنوها. (أما الباقون) فقد أخذوا الى منطقة تدعى أقصر. وهناك احاطت بهم جموع الصعاليك من اهالي قرى ريشميل وقفالة واخلاط، وبعد ان اوقعوهم ارضا، اخذوا يرفسونهم بأرجلهم، حتى سُحِقَ عدد منهم (وماتوا) فالقوا بجثثهم في الجب. ومن تبقى من هذه المجموعة، اقتيد الى موضع آخر، حيث ذبحوهم جميعا. والقوا بجثثهم في احد الأخاديد. ولم ينجُ منهم غير شاب واحد يدعى الياس جرجس، نجا من الموت باعجوبة، فكتبت له الحياة، بعد ان بقي في ذلك الإخدود قرابة شهر!
حين رأى رئيس حامية المدينة، خدر كوميري ان زمرة البنائين تُباد، واشغال البناء تعطلت، استدعى عددا منهم ومن بينهم لولي كيسو، البناء الماهر جدا في فن العمارة، قائلا لهم وبتملق: ’انكم ستقتلون جميعكم، أما انا اتمنى لجميعكم، ومن صميم قلبي، البقاء على قيد الحياة، لكن الأمر ليس بيدي. فرأفة بكم، فكرت بأمر نجاتكم، اذ تنكرون ديانتكم وتعتنقون ديانتنا، ظاهريا، وفي الخفاء تمارسون شعائر ديانتكم‘‘. انخدع اولئك البناؤون بكلماته المعسولة، فوافقوه. حينئذ اخذهم عند حاكم المدينة، حيث جاهروا بالاسلام. وتأكيدا على ذلك، فقد رفعوا سبابتهم، واعتمروا بعمامة بيضاء، اسوة بالمسلمين، فنجوا. ترددوا الى الجوامع ليؤكدوا للشعب بانهم قد اسلموا فعلا. وكانوا يقيمون الصلاة على غرارهم، وكذلك صاموا اصوامهم. وثمن نجاتهم، كان أن سخرهم رئيس الحامية، لبناء المنارة الجميلة القائمة بركن المسجد المسمى ’’جامع الشهيد‘‘ الكائن بجوار منزله. وعلى هذا المنوال عملوا سنتين مجانا متممين رغبته حتى اتموا البناء. وللحقيقة نقول: انه لا يوجد (لتلك المنارة) مثيل من حيث جمالها وهيأتها في كل هذه الانحاء. اما الذي كان يمرض منهم، كانوا يدعون لزيارته الكاهن رافائيل الطاعن في السن. اذ كان يعلمهم خفية وكذلك كال الحال بالنسبة للنسوة، لأن لم يكن باستطاعتهن الذهاب الى الكنيسة.
بعد ان وضعت الحرب اوزارها، ودخول قوات الدول المنتصرة العاصمة اسطنبول، في شهر تشرين الثاني 1918، ارسل محمد مخلص بيك رحمن، الذي كان يشغل منصب وكيل الحاكم، وكان هذا يحب المسيحيين كثيرا، ارسل في طلب تلك الزمرة من البنائين. وما ان مثلوا بين يديه، امرهم بالقاء الأغطية التي على رؤسهم، والعودة الى ديانتهم. وبعد يومين جاءوا عندي (اي عند المطران اسرائيل اودو)، فقبلتهم بفرح وسرور، ومنحتهم الحَلَّة. فكان فرح عظيم لهم ولعوائلهم جميعا. كان عدد هؤلاء اربعة وعشرين رجلا، لا نرى ضرورة لتدوين اسمائهم هنا.
كان ايضا يعمل بالسخرة (مجانا) بقية البنائين من الطوائف الأخرى، وكذلك النقارون والعمال ومعهم الشباب الذين يبلغون السن الذي يؤهلهم للعمل. فمنهم من كان يعمل بتعريض الشارع المار في وسط المدينة (ماردين)، ليسهل مرور الأعداد الكبيرة من القوات (ألعسكرية) مع آلياتها وتجهيزاتها، التي اتى بها ألألمان لتعزيز ماكنة الحرب. وبسبب تعريض الشارع فقد نكبت كنيستنا الكلدانية، اذ استقطعوا جزءا غير قليل من ساحتها بعد ان هدموا سورها وعددا من الغرف، واضيفت الى الشارع. اما ما بقي من الساحة، ظل مُبَاحاً ومُشَاعاً لعَبَث كل من يرغب ولفترة غير قصيرة، حتى استطعنا وبالعمل المضني والممل وانفاق أموال غير قليلة، أن نُشَيِّد (سورا) ونحمي ما تبقى من الساحة والغرف مع الكنيسة. اما بقية الرجال فمنهم من كان يعمل في صيانة الطريق الذي خارج المدينة والمتجه نحو العقبة . وكذلك كان بعضهم يعمل في الشارع المؤدي الى محطة القطار، شرق المدينة. وعلى هذا المنوال كان يعمل الجميع، من الصباح وحتى المساء مجانا كما ذكرنا، حتى انتهاء الحرب العالمية. أما مصير الرجال الذين جمعوهم مع المجموعة الأولى من النساء، كان مصيرهم الشهادة من اجل المسيح، هم وكذلك النساء، كما سيرد ذلك في الفصل التاسع.
* ''' الفصل الثامن '''
''' في كيف ان القوميسير (مدير الشرطة) يسرق ويبتز النسوة اللواتي استشهد ازواجهن '''
ان ممدوح الذي ورد اسمه فيما مضى، وبعد ان اعلن العفو عن (من تبقى من) الطوائف المسيحية (عدا الأرمن)، وارضاء لنزواته وشراهته، فكَّر بسلب وابتزاز النسوة اللواتي استشهد ازواجهن. ولإتمام رغباته، استعان بشخص يعقوبي يدعى حنا بن نصري هدايا، واتخذه دليلا ومرشدا له، بعد ان منحه الصلاحيات، ليتصرف بحسب امكانية وثراء كل من تلك العوائل والنساء. كما عرف كيف ينتقم وماذا بامكانه ان يأخذه من كل عائلة. وعليه فقد ارسل اولا في طلب منصورة زوجة جرجس ترزيخان من ابناء طائفتنا الكلدانية، قائلا لها: استعدي انت وابناؤك للإلتحاق بزوجك، لأنه ارسل في طلبك، وعليه انني امهلك يومين أو ثلاثة، لتفتدي نفسك وأولادك. فكري ماذا تختارين؟ اجابته المرأة العفيفة التقية، بعد ان جمعت قواها، قائلة له: ان ما يأمر به سيدي سأعطيه، وبحسب امكانيتي. قال لها: مائتا (ليرة) ذهب. اجابته قائلة: هذا الكم من الذهب غير متوفر عندي في الوقت الحاضر. أمهلني حتى ابيع ما عندي من حانوتنا كي ادفع ما طلبته منى، فاذا تريد ضمانا او امانات، ساعطيك ما عندنا. ثم اخرجت كل ما لها ولحماتها من المصوغات الذهبية والمجوهرات وألأحجار الكريمة، وأعطتها له، كانت قيمتها تبلغ أكثر من خمسين (ليرة) ذهب. وبعد ايام جاء اليها واخذ منها المائتي (ليرة) ذهب التي طلبها. ولما طالبته باعادة ما اعطته من ضمانات، غضب جدا واخذ يعربد، فاسمعها واقرفها كلمات نابية وقاسية، ثم تركها وغادر.
بعد ان خرج من عند منصورة زوجة جرجس ترزيخان، ذهب ممدوح برفقة دليلهِ (حنا بن نصري) الى دار رزق الله كزى، من جماعتنا الكلدانية ايضا. وطلب منه زوجة اخيه منصور ـ العروسة الشابة ـ كان زوجها قد اقتيد (واستشهد) ضمن المجموعة الأولى، (بحجة) ارسالها عند زوجها. فنقده رزق الله اربعين (ليرة) من الذهب، فأخذها وولى. ولما ظن ممدوح، بأن الكمية التي اخذها من رزق الله، هي قليلة، عاد اليه ثانية وثالثة، حتى اخذ ضعف ما كان قد اخذه من الذهب. كما وانه ارسل لأحضار جرجس شوحا وابن عمه الياس، وهما كلدانيان ايضا. كانا ضمن المجموعة الثانية، وعادا الى داريهما بسلام (كما ذكرنا عن قسم من المجموعة الثانية في الفصل الخامس). فقال للأول: سلم لي زوجة اخيك جبرائيل ـ وهذا استشهد ضمن المجموعة الأولى ـ واطفالها، لأخذها لدى زوجها. أما للثاني فقال له: هاتِ عروستي شقيقيك عبدألأحد وفريد، اللذين كانا مع المجموعة الأولى ايضا، مع اطفاليهما. فاعطاه جرجس مائة دينار، بعد ان اقترضها لقاء فوائد. اما الياس فقد اعطاه مائتين، فاخذها. غير انه وبعد ايام معدودة، عاد الى الياس، يطلب المزيد من المال، معتبرا المبلغ الذي اخذه منه غير كاف، لأن الياس رجل ثري. فلما رأى الياس بأن لا مناص من اطماع ممدوح، حتى يأتي على كل ما يملكه، ترك داره وفرَّ هاربا الى جبل سنجار، حيث بقي حتى استقرت الأوضاع، ثم عاد الى داره. ان الياس بن نيقولا هذا، كان من اشراف جماعتنا الكلدانية، استشهد شقيقاه ضمن المجموعة الأولى. كانا وسيمين ومثقفين جدا. أما الياس وابن عمه جرجس، فقد اخذا ضمن المجموعة الثانية، لكنهما عادا بسلام بعد ان أخلي سبيلهما بفضل أمر الحاكم (كما ذكرنا في الفصل الخامس)، فكتبت لهما الحياة من جديد. ثم اخذ ممدوح من كل من نصري سفير وملكي شنخور (وهما) من وجهاء البروتستانت، مبلغ مائتي (ليرة) من الذهب. أما من ابناء طائفة السريان الكاثوليك، فقد جمع الف (ليرة) من الذهب. ومن دير مار افرام العائد للسريان الكاثوليك، أخذ خمسمائة (ليرة) من الذهب، ناهيك عن الودائع وألأمانات الكثيرة التي كان الأرمن قد اودعوها في الدير. فطغى ممدوح بذلك الكم من الذهب الذي جمعه وتبختر . أما البيوتات التي طلب منها الذهب ولم تعطه، كبيت معمار باشي وبيت دوقماق، من ابناء طائفة السريان الكاثوليك، فقد صودرت دورهم وبيعت.
==الفصل الثالث==