Changes

Jump to: navigation, search
عصر يوم عيد الجسد الذي صادف 3/ حزيران/ 1915م، القي القبض على مار اغناطيوس مالويان رئيس اساقفة ماردين وتوابعها للأرمن الكاثوليك، المارديني المولد. رجل غزير العلم والمعارف، وذو كلام فصيح بليغ، كان وقتئذ في العقد الخامس من عمره. ومعه ايضا كاتم اسراره (سكرتيره الخاص) القس بولس سنيور الشاب المهذب المثقف. وفي اليوم التالي القوا القبض على كل رؤساء ونبلاء ووجهاء الأرمن والسريان والكلدان، اذ بلغ عددهم الخمسمائة وشخصين، ومن بينهم كهنة الأرمن والسريان الكاثوليك. فاخذوا يعذبونهم لانتزاع اعترافات منهم عن اماكن خزائنهم، لأنهم فتشوا في الدور وحفروا في الكنائس وأزالوا الأسس والجدران وفتحوا القبور وحتى توابيت الأساقفة المدفونين في الكنائس، ولم يعثروا على شئ. غير ان اظهار رسالة من شخص ارمني يدعى سركيس، مرسلة الى المطران مار اغناطيوس مالو، جاء فيها: ها اننا قد هيأنا البنادق مع العتاد، وقد اشترينا منها حوالي الستة احمال . وسنكون قريبا عندك مع السلاح. هذه الرسالة كانت ذريعة واجبة لادانتهم وقتلهم. وبما ان ذلك السجن لم يسعهم فقد عزلوا منهم عددا غير قليل وحجزوهم في مستودع كان قد افرغ للتو، وكان مملوءا من العفونة والسوس والديدان والقمل، اذ لم يكن في ذلك المستودع فتحات كافية لتغيير الهواء وسحب الروائح المتعفنة، وادخال الهواء النقي، عدا فتحتين في الأعلى عند السقف. وعليه فقد نتنت الروائح وتقززت في ذلك المستودع، اذ لم يكن باستطاعة انسان ان يتنفس بصورة جيدة. وفي تلك الهوة القي الذين يُسَبِّحون المسيح من اهالي ماردين، لفترة بلغت اسبوعا واحدا. وكان الأرجاس يخرجون الكهنة كل يوم ويأمرونهم بكنس أزبال ساحة القلعة وتنظيف مراحيضها، تحت سيل من الشتائم والمسبات والضرب المبرح ونتف اللحى والبصق في وجوههم، هذا نهارا، اما في الليل فيأخذونهم الى السجن التحتاني حيث كان المطران مار اغناطيوس مالويان ورفاقه مسجونين، فيسومونهم اصناف العذاب، اسوة بالمطران. اذ كانوا يخلعون عنهم ملابسهم ويعلقونهم ويضربون اجسادهم العارية بالعصي. ومنهم من كان يضرب على اصابع قدميه، بعصي طرية وذات نتوءات، هذا ناهيك عن الفلقة. ولم يتوقفوا عن تعذيبهم حتى يروا الدم يتدفق من اجسامهم. وبسبب قساوة التعذيب الذي كانوا يتعذبوه فان عددا منهم لم يستطع احتماله، فلقوا حتفهم من شدة الآلام، وآخرون صبوا النفط في افواههم فاحترقت.
 
* ''' الفصل الثالث '''
''' في استشهاد المجموعة الاولى '''
 
بعد اربعة ايام، اطلق سراح اليعاقبة، وكان عددهم خمسة وثمانين شخصا، واملنا كان بأن تشمل المراحم بقية السجناء، غير ان آمالنا تبددت، اذ بعد اربعة ايام اخرى، اخرجوا جميعهم ليلا واقتيدوا مقيدين بالحبال، كل اربعة اشخاص معاً. ومنهم من كانت القيود في اياديهم واعناقهم، وكانهم مجرمون قتلة. وكان ثمانون فارسا يتولون حراستهم، فاتجهوا بهم صوب آمد، وبعد ساعة من المسير، حادوا بهم عن الطريق الرئيسية وادخلوهم في الوديان والشعاب حيث لا وجود للبشر فيها. وهناك كانت زمرة من اشرار الاكراد بانتظار هذه الكوكبة، وهم مدججون بالسلاح. ولما بلغوا بهم هذا المكان، اخرج آمر المفرزة فرمانا من عبه يأمر بقتلهم. وبعد ان قرأه عليهم وبصوت عال، اعقب يقول: ان اسلمتم واعترفتم بنبيِّنا، سنشفق عليكم ونعيدكم سالمين الى بيوتكم.
وما ان انجلت للمؤمنين تلك الخدعة حتى تشجعوا وقالوا بجرأة ووقار وصوت واحد لذلك القائد: اعلم اذا انت وصحبك المجتمعين ههنا، وانقل اقوالنا الى رؤسائك، اننا نعلم باننا ابرياء، امام الله وامام الشعب، مما تتهموننا به. وضميرنا شاهد علينا، وحتى انتم تشهدون على ذلك، ناهيك عن اهالي ماردين جميعهم الذين يشهدون على حسن سيرتنا واخلاقنا، التي لا تعاب، واخلاصنا للدولة ولكل فئات الشعب، وكما ورثناه وتعلمناه من آبائنا واجدادنا الأبرار. فاذا كانت السلطات لا تريدنا ولا اهالي ماردين، وينشدون قتلنا ظلما وجورا، رغم براءتنا التي تشهدون انتم عليها، فليكن دمنا الطاهر ودم نسائنا واطفالنا الذي سيُسفك ظلما على ايديكم، عليكم وعلى هذه الدولة للدينونة يوم القيامة. وان الساكن في السماء لا يخفى عليه المكر الذي يكنه البشر في قلوبهم وفي ضمائرهم، وهو الذي سينتقم لمعاناتنا لأنكم تطلبون منا ان نجحد ايماننا. اعلم واشهد علينا انت وصحبك، بأننا نعلنها وعلى الملأ، بأننا جميعنا، ولدنا مسيحيين مؤمنين حقيقيين، كذلك ليكن موتنا، فلا تترجوا تضليلنا وانقيادنا وراء وعودكم الكاذبة، ولن نهاب الموت والقتل. لأنه قد كتب: ’لا تخافوا من الذي يقتل الجسد، لأنه لا يستطيع ان يقتل الروح. متى: 10 : 18‘. ثم صاح الجميع صيحة رجل واحد، وبصوت عالٍ قائلين: اننا جميعنا لمستعدون للموت من اجل مسيحيتنا. تعجب أولئك الفرسان لشجاعة وبطولة هؤلاء الرجال البواسل الصالحين، فمنحوهم زهاء نصف ساعة تلبية لطلبهم، ليستعدوا للموت بالصلوة والتوبة. وفيما كان المؤمنون يستعدون للموت بالتوبة والصلوة، كان الأشرار يعدون عدتهم لتنفيذ المجزرة بحق هؤلاء الأبرار. وحين انتهاء نصف الساعة الممنوحة لهم، قام شاب في وسط الجمع الذي كان جاثيا على ركبتيه ومتجها نحو الشرق، واياديهم مرفوعة نحو السماء، مشكلين منها علامة الصليب. لا نعلم اسم هذا الشاب، ولا اسم عشيرته، فأخرج من جيبه كتاب صلوات، ثم بدأ بتلاوة الصلوات والتضرعات. وبعد ان صلوا قرابة نصف ساعة نالوا الحلة الأخيرة على يد الكهنة الذين معهم . أما المؤمنون وبعد ان اتموا كل شئ تقدموا وبكل جرأة صوب القتلة قائلين لهم: أكملوا رغبتكم. وللحال بدأ الفرسان والأكراد يفرزون كل عشرة من المؤمنين جانبا، ثم يذبحونهم بعد تجريدهم عن ملابسهم. وهكذا كانت هذه الكوكبة طعما لسيوفهم، فمنهم من ذبح كالنعاج، ومنهم من بقرت بطونهم بالخناجر والسكاكين، ومنهم من هشمت رؤوسهم بالعصي والهراوات والقضبان الحديدية، ومنهم من ثقبت اجسادهم برصاص منصهر، حتى اتوا على جميعهم. فتجندلت هامات هؤلاء الرجال الأبرار أثرياء الروح، الذين ذاع خبر استشهادهم في هذه الأرض التافهة. فكانوا مدعاة عار للأكراد وطعما لوحوش البر، ولجوارح السماء. ان هذه الكوكبة من الشهداء كانت مؤلفة من 477 شخصا، على النحو التالي، 106 من السريان الكاثوليك، و36 من الكلدان، والباقون اي 335 من الأرمن الكاثوليك. وقد نالت هذه الكوكبة من الشهداء اكليل الشهادة في منطقة تدعى قلعة زوزاون في 11/ حزيران/ 1915م.
سجلت هذه الأحداث بكل امانة مستخلصا اياها من روايات الكثيرين من الفرسان، ليس لكونهم من اهالي هذه المدينة فحسب، بل لأنهم كانوا هم المنفذين لهذه المجزرة والفعلة الذي عملوا في حصاد وقطف هذه العناقيد وعاصريها. ومن شهادتهم علمنا ايضا بانه لم ينجُ احدٌ من كل تلك المجموعة المحصنة بالروح القدس، شابا كان ام كهلا. وعليه نقول: ان ارواحهم المبجلة طارت الى السماء حال انفصالها عن اجسادهم بصحبة الملائكة، وهي مكللة بأكاليل الغار والشهادة والنصر.
 
* ''' الفصل الرابع'''
''' في سبب اطلاق سراح اليعاقبة '''
 
بعد القاء القبض على اشراف اليعاقبة مع بقية وجهاء واشراف المسيحيين، واودعوا السجن بدون اي تمييز، ارسلوا بعضا من وجهائهم عند المسؤولين متوسلين بهم قائلين لهم: اننا ومنذ القدم نعتبر من مُحبيكم وفي حماية نبيكم الذي هو نبينا، وعبيدا وخدما لكم ولأبنائكم ومنذ زمن مديد. وقد سجنتمونا اسوة بالذين يكرهونكم، وحُسبنا بصف اعداء مملكتكم وخُلطنا مع الأشرار. فارحموا عبيدكم ولتسبغ مراحمكم أيتامكم، وانققذوا حياتنا في سبيل الله. بالنبي العظيم نستغيث، فاشفقوا علينا. ولما سمع المسؤولون تلك الاقوال، عطفوا عليهم، فأمروا باطلاق سراحهم فورا شرط ان يتلوا علنا العريضة الموقعة من قبل وجهائهم، والتي جاء فيها: ’ان مسيحيي ماردين وضواحيها من السريان الكاثوليك والكلدان والبروتستانت، هم اعداء المملكة، ومبغضو هذا الوطن. وهم من محبي الغرباء (الدول الاوربية) ومن مؤيديهم. وعليه فجميعهم يستحقون الموت‘. وبعد ان تلوا تلك الشهادة الخبيثة، اخرجوا من السجن. واليك اسماء الذين وقعوا على تلك العريضة: حنا أوسي القس حنا ومنصور جبوري ونعوم شهرستان وحنا حناش وحنا هداية. هذه هي الحقيقة ولا يوجد فيها اي تحريف. لأنني سمعتها من حنا هداية نفسه، الذي قال لي وبالحرف: لسنا نحن الذين كانت لهم يد في مقتل مسيحيي ماردين وضواحيها، بل حنا أوسي الذي كان قد قتل في داره وهو راقد في فراشه ليلا، بعد اربع سنوات من ذلك الحادث.
في بعض سجايا اليعاقبة
ان يعاقبة ماردين أطلقوا على انفسهم ايتام محمد، وأيتاما وعبيدا للمسلمين. لم يخجلوا من هذا الاسم المشين الذي تسموا به ليكون كعلامة فارقة، تفرقهم عن بقية المسيحيين (من المذاهب الأخرى)، بل كانوا يتباهون به كما يتباهى المسيحيون بعلامة الصليب. ان عشرتهم للمسلمين كانت وعلى الدوام اكثر مما كانت للمسيحيين (من المذاهب الأخرى). وبسبب تلك العشرة، فقد اقتدوا بأحاديثهم اذ اخذوا يستشهدون بآيات قرآنية خلال احاديثهم، لسبب كان أو لغير سبب، فقط للاقتداء بالمسلمين والتباهي بعاداتهم. ويزينون جدران منازلهم من الداخل بلوحات مطرزة بآيات قرآنية. أضف الى ذلك، ان كبار احبارهم (مطارنتهم) يعترفون ويَعِظون شعبهم عن الدين الاسلامي ويُعَظمونه جهارا. ويتشبهوا بهم الى اقصى حد باليمين والقسم خلال احاديثهم كلها. ويضعون القرآن على رؤوسهم. ومحاباة للوجوه، أخذوا يجاهرون وعلنا بما يختلج في قلوبهم، ويعلمون ابناء طائفتهم قائلين: خير لنا ان نعتنق الاسلام من ان نتحول الى الكثلكة. وكانوا يحاولون سد كل السبل امام الكاثوليك. ويدعونهم بأعداء المملكة (العثمانية) ومبغضي الوطن ومحبي الاجانب (أي مسيحيو اوربا).
في سبب آخر لاطلاق سراح اليعاقبة
كانت في طور عبدين قرى كثيرة سكانها من اليعاقبة، واكبر تلك القرى كانت ميديات. وعلاوة على ما رويناه، فقد ظن المسؤولون المذكورون، انهم لو قتلوا يعاقبة ماردين، وتصل تلك الأخبار مسامع اهالي طور عبدين، سيثورون ويتمردون، وبذلك ستصعب السيطرة عليهم وابادتهم. لذا ارتأوا اطلاق سراح يعاقبة ماردين، وتأجيل ضربهم لوقت مناسب. لذا فأمر اعفائهم الذي اعلن، انقذ هؤلاء الذين من مدينة ماردين، كما سنرى في احداث المجموعة الثانية.
 
 
* ''' الفصل الخامس'''
''' في سوق مجموعة ثانية '''
 
افرغ السجن من المجموعة الاولى، بعد ان تم القضاء على جميع مكوناتها، عدا اليعاقبة منهم، كما اسلفنا. فامتلأ من جديد بحشد غفير متكون من الطوائف المسيحية عدا اليعاقبة. سواء كانوا علمانيين أم شمامسة وكهنة، شيبا وشبانا، بلغ عددهم ثلاثمائة وتسعة اشخاص. من ضمنهم احد عشر كاهنا، سبعة منهم من كهنة السريان الكاثوليك، والاربعة الباقون من كهنة الارمن الكاثوليك.
في غسق يوم الاثنين 14/ حزيران/ 1915م، رُبِطوا جميعهم بحبال ومنهم بسلاسل حديدية وعلى شكل مجموعات، كل مجموعة تتألف من اربعة اشخاص. ثم اقتادوهم مُهانين في الطريق المؤدي الى آمد. وهم حفاة وعطاش وجياع، واهنون ومتعبون ومضطربون، يصارعون الموت. ومن جراء حالتهم هذه، سقط عدد منهم في الطريق. فلما كان الرعاع يشاهدونهم ساقطين ارضا كانوا يعالجونهم باطلاقهم عليهم رصاصة الرحمة، فيردونهم قتلى، ثم يسحلون جثثهم ويلقون بها في قارعة الطريق. ولما بلغوا مكانا يدعى شيخان ، حتى انزلوهم مغارة يستخدمها الرعاة لإيواء مواشيهم. وبسبب الازبال المتراكمة في ذلك الموضع، لم يغمض لهم جفن طيلة تلك الليلة، بل امضوها بالصلاة والتوبة وفحص الضمير وتنقية القلوب والاعتراف امام الكهنة الذين معهم، استعدادا للشهادة.
وفي غلس ذلك اليوم، دخل عليهم الجلادون، وفرزوا من بينهم أربعةً وثمانين شخصا، ثم اخرجوهم واقتادوهم الى جبل شهيا حيث ذبحوهم ذبح النعاج. وعند بزوغ الشمس، اخرجوا الباقين من تلك الكوكبة واقتادوهم نحو الموضع المعين لذبحهم، اذ كان قريبا من حيث كانوا. وقبيل المجابهة، طلب المسيحيون ماء ليشربوا. فسمحوا لقسم منهم بالنزول الى النهر لاستقاء الماء. انتهز بعض هؤلاء الفرصة، فحاولوا الهرب، غير ان القتلة اطلقوا النار على جميع من كان عند النهر، فاستشهد خمسة وعشرون فردا منهم. جرى هذا يوم الثلاثاء المصادف 15/ حزيران/ 1915م، وهو اليوم الذي ذبح به زملاؤهم ألأربعة والثمانون ألآخرون. كان من بين الخمسة والعشرين شهيدا، القس جبرائيل الأرمني. أما القس حنا السرياني، الذي من قرية بنيبيل، فقد اصيب بجروح. وعلى اثر هذا الحادث، منع الأشرار من بقي منهم من شرب الماء. وفيما كان الجلادون يتهيأون للقضاء على الباقين من هذه المجموعة البائسة، الذين احاطت بهم سكرات الموت من كل جنب، اذا بكوكبة من الفرسان قوامها عشرة فرسان، قادمة من آمد تباغتهم. فنادى قائد الفرسان ومن بعيد بأعلى صوته قائلا: لقد صدر امر بالعفو عنهم، فلا تؤذوا أحدا. وحين وصول الفرسان، استلموا من بقي من هذه المجموعة، بحسب الأمر الذي مع قائدهم، ثم ذهبوا بهم الى آمد، حيث اودعوا السجن. افترش المسيحيون الأرض من شدة التعب ناهيك عن الجوع والعطش اللذين انهكا قواهم واجهداهم، حتى اضحوا على شرفات الموت. وما ان سمع اخوتهم الآمديون بوجودهم في السجن، حتى هَبُّوا مسرعين مبهوتين مادين يد العون والمساعدة والمواساة لاخوتهم. فقدموا لهم ألأطعمة والأفرشة. اننا نعجز عن وصف اهمية تلك المساعدات التي قدمها الآمديون للماردينيين التعساء، طيلة فترة بقائهم مسجونين في آمد.
ان سبب ارسال تلك الكوكبة من الفرسان من آمد، كان: لما أبرق مسؤولو ماردين الى حاكم آمد، د. رشيد يُعلمونه بأنهم قد قضوا على المجموعة الأولى المتكونة من مختلف الطوائف، وانهم قد جمعوا مجموعة ثانية مثلها. وهم على وشك اخراجها وقتلها. غضب د. رشيد لدى تلقيه البرقية. فارسل على الفور تلك الكوكبة من الفرسان التي اعلنت في الطريق عدم ايذاء المسيحيين واستلمتهم من ايدي سفاكي الدماء، وذهبت بهم الى آمد.
بعد يومين اي في 26/ حزيران، اخرج السجناء الى باحة سجن القلعة، واتى لتفقدهم الحاكم رشيد. كانت تلك المجموعة مؤلفة من كهنة وشيوخ وشبان، ومن كل الطوائف. أرجلهم متورمة من تأثير القيود التي كبلت بها، اذ بصعوبة بالغة كانوا يمشون، وسحنتهم قد تبدلت. غضب (رشيد) حين رآهم على هذه الحال، فامر باطلاق سراح (غير الأرمن) واعادتهم الى بيوتهم سالمين، وان يقبضوا فقط على من يقوم فعلا بالتحريض على اعمال الشغب، لأن غايته كانت ابادة الارمن. وتنفيذا لأوامره، عاد اولئك (غير الأرمن) الى ماردين، فوصلوها بسلام صباح يوم السبت 29/ حزيران/ 1915م. كان لنا بين من أطلق سراحهم من السريان والكلدان، شماسان هما عبد المسيح خرموش، يناهز السبعين من عمره، واسكندر تمرز. فلما عادا الى داريهما، تمرضا من جراء ما اصابهما في الطريق، وتوفيا. أما القس حنا البنيبيلي السرياني، الذي كان قد اصيب بطلق ناري اطلقه عليه الجلادون عند النهر، كما ذكرنا من قبل، قد تمرض في السجن، هو وفتى آخر ابن ستة عشر ربيعا، يدعى ايليا وهو ابن الشماس توما سلام من جماعتنا الكلدانية. تمرض هذا الفتى في السجن من تعب الطريق والفزع الذي استحوذ عليه. فهذان الشخصان سلمهما الحاكم الى المطران سليمان صباغ (مطران آمد للكلدان). غير ان الفتى المنكود الحظ توفي بعد ايام قلائل متاثرا بما عاناه خلال هذه المحنة. اما القس حنا السرياني، فبعد مكوثه زهاء خمسة اشهر او اكثر عند المطران المذكور، الذي اهتم بكل احتياجاته وعلاجه حتى تمائل للشفاء، عاد بعدها الى داره فرحا. غير انه بعد ستة اشهر من عودته، تمرض ومات.
يتراءى للمرء وللوهلة الاولى، بان رشيد قد عمل معروفا باطلاق سراح من سلم من مسيحيي الوجبة الثانية من غير الأرمن، واعادتهم الى بيوتهم بسلام. غير ان المسيحيين الأجلاء من الطوائف الاخرى فقد اصطفي وجهاؤهم واشرافهم اصطفاء، وهم مُعوَزّون ومظلومون، اذ سُلموا للتعذيب والسخرية، وبعد ان امعنوا في اذلالهم، نالوا اكليل الشهادة. ان الجهاد الذي جاهده هؤلاء الشهداء كان بسبب نزوة وبُغض رشيد (ورؤسائه) الشديد للمسيحيين. فانتهزوها فرصة للقضاء على المسيحيين واستئصال شأفتهم من هذه البلاد. اما الأرمن وكهنتهم، فقد اخرجوا ليلة الجمعة التالية اي في 2/ تموز، وسيقوا الى دارا حيث ذبحوا جميعهم، والقوا بجثثهم في الوديان، بعد تجريدها من كسوتها.
اسماء القتلى من كهنة الأرمن:
1ـ القس اسطيفان حولوزو رئيس كهنة كنيسة مار يوسف في ماردين. 2 ـ القس يعقوب فرجو من تل الأرمن. 3 ـ القس أثاآناس بطاونة. 4 ـ القس انطون احمراني. 5 ـ القس ليون نزار. 6 ـ القس ميناس نعمة. 7 ـ القس مكرذايج قليونجي. 8 ـ القس اوغسطين بغدي. 9 ـ القس وارتان صباغ. 10 ـ القس فرنسيس ككو. 11 ـ القس بولس شذ كاهن درَّا. 12 ـ القس جبرائيل قطيشرجي. 13 ـ القس اغناطيوس شادي. 14 ـ القس بولس سنيور كاتم سر (سكرتير) المطران مار اغناطيوس مالو. أما القس ايوانيس بوطري، رئيس كهنة كنيسة كرسي مار كوركيس، والبالغ من العمر الثمانين عاما، فقد أُجِّل قتله الى الخامس عشر من تموز، اليوم الذي فيه استشهدت المجموعة النسوية الأولى، اذ قتل معهن. أما سبب تأجيل قتله، فكان ثراؤه وهو في مثل هذا العمر، مما اثار عليه حقد القتلة. فسجنوه في زنزانة لا يتعدى طولها الخمسة اشبار، وكذلك عرضها. فلم يكن بامكانه النوم ولا حتى الجلوس لضيقها، علاوة على القيود التي في يديه. فاخذوا يسومونه اصناف العذاب، ليس فقط هذا بل انتزعوا منه كل ثروته وممتلكاته، بل وحتى ملابسه كلها، تاركين له فقط ما يستر بها جسمه. وبعد ان اساموه انواع العذابات، سيق للذبح هو ألآخر ايضا.
أسماء القتلى من كهنة السريان الكاثوليك:
1 ـ القس رافائيل بردعاني الخورأسقف. 2 ـ القس بطرس عيسى. 3 ـ القس حنا طبي. 4 ـ القس متى ملاش. 5 ـ القس يوسف معمار باشي. (هؤلاء قتلوا ضمن المجموعة الأولى). ومن المجموعة الثانية: 6 ـ القس حنا البنيبيلي، الذي بقي يعالج عند المطران سليمان صباغ من اصابته بطلق ناري، وبعد شفائه عاد الى ماردين، كما ذكرنا اعلاه. كانت وفاته في شهر تموز من عام 1917م. أما الكهنة الثلاثة الآخرون ألذين كانوا ضمن المجموعة الثانية فهم كل من القس متي خريمو، والقس لويس منسوراتي، والقس يوسف رباني الموصلي. وقد عاد هؤلاء مع الآخرين الذين عفي عنهم في 26/ حزيران، كما مر ذكره.
 
* ''' الفصل السادس'''
''' في العذابات التي قاساها المسيحيون '''
 
في هذا الاضطهاد القاسي، عانى الكثير من المسيحيين، الوانا شتى من العذابات والمضايقات والضرب والتنكيل، لا تقل بشاعتها وقسوتها عن تلك التي عاناها الشهداء في الاجيال الأولى (للمسيحية). نسجل عن ما عاناه وتحمله كل واحد من هؤلاء، سيطول بنا الحديث كثيرا، وسنخرج عن الهدف المنشود من هذا الكتاب، كما وسيمُل القارئ اللبيب. لذا ساختار عينة من هؤلاء واكتب باختصار عما عانوه، بدءاً بالكهنة:
1ـ القس متي خريمو: كاهن فاضل، عجوز من كهنة السريان الكاثوليك، قبل ان يعاد الى ماردين، كان قد ادخل السجن، حيث اذيق انواع مختلفة من الضرب المبرح والاستهزاء والسخرية من قبل مضطهديه. فقد جلد مائة جلدة وضرب مائة لكمة، وبعد ان علق منكس الرأس، ضرب ضربا قاسيا حتى سالت الدماء من جسمه. وما ان انزل حتى سقط على الارض فاقد الوعي. كانوا ايضا قد بصقوا بوجهه ونتفوا لحيته ووضعوها في يده. ولما اخلي سبيله مع رجال المجموعة الثانية (عدا الأرمن منهم)، لم يقوَ على المشي، فحمل الى غرفته حيث بقي طريح الفراش لأيام عديدة.
2 ـ القس مكرذايج قليونجي: من كهنة الأرمن الكاثوليك، كان هذا الكاهن ضمن المجموعة الثانية، وقد نتفت لحيته هو ألآخر. كما ضرب لفترتين بالعصي ضربا مبرحا وموجعا، حتى تخلخلت اعضاء جسده وكُسِرت اصابع قدميه وتدفق الدم من عينيه. ويمكننا القول بأن جسمه تشوه.
3 ـ سعيد بطاني: رجل ارمني فاضل تقي، في الليلة الأولى لحبسه، ربطه الرعاع وضربوه بالعصي على اخمص رجليه وهما مرفوعتان، (أي الفلقة). وكذلك ضرب على جميع اجزاء جسمه ضربا شديدا، حتى تناثر لحمه، وسالت من جسمه الدماء. وبعد يومين اخذ ثانية الى صالة التعذيب، حيث كووا جسمه بسفائد حديدية، بعد ان كانت توضع على النار حتى الاحمرار. فلم يتركوا موضعا سليما على جسده، فعانى من جراء تلك الحروق، الكثير من الآلام. وبعد مغيب شمس احد ايام تلك الفترة العصيبة، جاءت ابنة عمه (الصواب ابنة اخيه كما سنرى) الى كنيستنا، طالبة من الساعور قليلا من زيت السمسم. فلما سألتها عن حاجتها به، اجابتني قائلة: ’’انه لتضميد جروح عمي سعيد بطاني الملقى في السجن، اذ مُزِّق جسده من قمة رأسه حتى اخمص قدميه. وفي ليلة الثامن والعشرين من حزيران/ 1915م، اخذ مرة اخرى الى صالة التعذيب، حيث ضرب بقساوة اشد حتى تمزق جسمه، وبانت عظامه، وسال الدم من جميع انحاء جسده. وبعد هذا الفصل من التعذيب، سحلوه من الطابق العلوي حتى السفلي. قمتُ، يقول شاهد عيان، وهو من بين السجناء ايضا: وأخذته وهو في الرمق الأخير، وادخلته داخل زنزانته، بعدها اخذت في تضميد جراحه حسب امكانيتي. وفي اليوم التالي، اي التاسع والعشرين من حزيران، اقتيد وزملاؤه خارجا (خارج المدينة)، حيث نالوا اكليل الشهادة.
4 ـ ألأب ليونارد الكبوجي الماروني اللبناني: القي القبض عليه في 15/ حزيران/ 1915م. ولما جيئ به الى السجن ألذي فيه المجموعة الأولى، استقبله البواب بصفعة قوية على وجهه. وللحال اجتمع عليه الرعاع من كل الجهات، فانهالوا عليه بالضرب المبرح، منهم من كان يصفعه وآخرون يركلونه بأرجلهم ومنهم من ينتف شعر لحيته ويبصقون بوجهه مجدفين عليه ويقرفونه بكلمات بذيئة وفاحشة، لا تناسب الا لقائليها، اولئك الذين ترَََبَّوا من طفولتهم على تلك ألأخلاق. بعد ذلك علق منكس الراس قرابة الساعتين من الزمن، اذيق خلالها ابشع تعذيب بعد ان اجتمع عليه العساكر الرعاع، اذ ضربوه بالجلدات والقصبات بقساوة لا توصف. ثم انزلوه، واخذوا يقلعون اظافر اصابع قدميه. وبعد ان أتوا عليها، القوه من على الدرج، اي من فوق الى تحت، فسقط على الأرض كالميت. وختم حياته باكليل الشهادة مع بقية رجال المجموعة الأولى.
كتبت بايجاز كبير عن الجهاد (الروحي) لهذه النخبة، فقط لأعطي فكرة لا غير، للقارئ الكريم، عما عانوه هم ورفاقهم في الجهاد، من اصناف العذابات والأستهزاء والسخرية، التي احتملها الكثير من مسيحيي ماردين من مضطهديهم حُبّا بالمسيح المخلص. ويلزمنا واجبنا ان نقول: بأن معظم مسيحيي ماردين كانوا من اثريائها ووجهائها، كما وهو لزام علينا ايضا، اظهار الجلد والصبر وعزة النفس والبطولة التي ابداها الشهداء الأبرار، حتى أدهشت أعداء الصليب. اذ رفعوا اصبعهم مندهشين، وهم يصرون اسنانهم، قائلين: ’في الحقيقة ان زرع النصرانية لا يقهر‘.
 
 
 
 
==الفصل الثالث==
==D==
 
 
==D==
 
 
==D==
 
 
==D==
 
 
==D==
 
 
==D==
==D====D==
==D==